الحمد لله
رب العالمين بارئ الكون ومصوره الأحد
الصمد الذي خلق وأبدع وفطر وأودع في الإنسان فطرته وسلوكه، فولد الإنسان ليكون حرا
بعقله مثابا عليه أو معاقبا به ومسؤولا عنه وحده، ولا تزر وازرة وزر أخرى.
فكان من تمام نعمة الله أن خلق الناس أحرارا وحرر عقولهم من سلطة البشر، وجعل كل إنسان محاسبا عن
نفسه، ومناط التكليف العقل واللب الذي جعله الله في الإنسان ليريه الحق والباطل،
وقد قال تعالى:" وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ" أي أننا وضحنا له
الطريق وبينا له السبل الصحيحة وكذلك السبل الفاسدة، وهذا كله مناطه العقل فلا يدرك العقل العليل الحق أبدا حتى يداوى
عقله ، والعقل السليم لديه قواعده وأصوله المتفق عليها، وكمثال على ذلك لا يكون
الشيء معدوما وموجودا في نفس المكان والزمان، وإذا كانت العقول سليمة فيمكنها
عندها أن تميز بين الحق والباطل، وبين المستقيم والمنحرف، وبين الخاص والعام،
والمقيد والمطلق، وإذا كانت العقول سليمة تمكنت من معرفة المقاصد والحكم من
الأشياء، وإذا كانت العقول سليمة فإن فطرتها سليمة تعاف الباطل وتكرهه، وتمقت
الظلم وتحاربه، ولا يخفى أن القلوب والعقول
تمرض إذا فسدت الفطرة، فلا تنكر منكرا ولا تعرف معروفا، وهذا هو الحال
اليوم فقد فسدت نظم العقول وقبضت قوارح الفحول
وانتشر في الناس القول الفاسد المقلد المنقول عن شيوخ باعوا دينهم بدنيا تزول،
فكرروا قولهم ونسوا فطرتهم، فأحلوا
لأنفسهم ما حرم الله وحرموا على أنفسهم ما أحل
الله، وكابروا كبرا مقيتا فاتبعوا مذاهبهم، واتبعوا سنن بني اسرائيل فلم
يكن من عملهم خير قط إلا أنّهم كانوا دلالة
على نبوته صلى الله عليه وسلم في كثرة الشر في اخر الزمان.
فكانوا كل
يوم يمهدون للمضلين الفرش ويلتمسون لهم من كل شعبة نفاق عذرا، فتارة الجهل، وتارة
تقصيرهم، وتارة السهو، والناس في كل ذلك ليس لهم حقهم القول في الأمر بشيء يسوء
ملكهم و وليهم الشرعي الذي منحهم الخبز والشعير، فكانوا كالبهائم التي ترضى بالمأكل
والمرقد من أمرها ولا تعدوه إلى غيره، ويسمون النوم استقرارا وأمنا، ويسمون الإصلاح
فتنة وفوضى، ونومهم وسباتهم لهو عند الله أشد من يعاقب عليه الناس.
لكن الإسلام
الحق بريء من المؤولين والمحرفين الذين ظهروا الأمس في بني إسرائيل واليوم في أمتنا
منذ بداية الممالك ليسوا من هدي المصطفى ولا من سنته بل هم مخالفون له لاأرفق بالأمة
ولا أرحم بها.
ولهذا فإن
الفطرة السليمة للعقل تفسدها كثرة مخالطة المواد الفانية والمتع الزائلة مما اجتمع
في الإنسان من طبع البهيمة، وإذا أكثرت أمة من الجانب المادي لها فإن عقولها تفسد
وقلوبها تمرض، فترى الحق باطلا وترى الباطل حقا، وليس أشبه بهذا من الموت والحياة،
فيرون الموت شرا لهم، والله بشر المؤمنين بالثبات عند الموت، ويرون الحياة خيرا
وما ذكرها الله إلا ذكرها بذم.
موازين
النظر للدنيا انقلبت، وإذا انقلبت المفاهيم التمس من العلم الشبه وترك المحكم
المفصل الذي اتفقت عليه العقول السوداء والبيضاء، وعلى هذا لك في الدنيا مثل
فالإنسان إذا أحب الدنيا وسكن لغرورها
التمس في حبها الاعذار، فإن أحب النساء أكثر من اللزوم قال: هن حرث لنا،
وإذا أحب الولد كثيرا قال: المال والبنون زينة الحياة الدنيا، وإذا أحب المال قال:
سماه الله خيرا، وهكذا تجده من كل باب شهوة يلتمس باب شبهة حتى يوطئ لملكه سلطانا
من الله، و كان الله من ذلك بعيدا.
فالله جعل
الشهوات لتقوم الأساسيات، فالشهوة أداة للصنع وليس المصنوع المنشود، إنما المنشود
المصنوع هو دين الله في الأرض، وما دين الله إلا شرعه وحكمه.
بينما الذي
يخاف على الدنيا وزوالها ويحتسب الموت شرا فذلك الأعمى الذي غطت المواد وجهه فهو
يلتمس رضى الناس بدل
رضى الله عنه.
فيعطي لأسياده
على كل شهوة سبعين رخصة ويقيم الدنيا ويقعدها إذا عصاه عوام الناس، ويحارب
الصالحين في هذا إن خالفوه على ما جاء به، وهذا هو حال عالم السلطان مقيت العشرة
طويل اللسان محب شهوات تارك لما تكرهه النفس البشرية كالقتال والزهد.
ولكن الإسلام
تصوره مختلف وفهمه مستلف خلف عن سلف، إن الجنة حفت بما نكره، والنار حفت بما نحب،
فليس كل ما نحب خيرا وليس كل ما نكره شرا وقد قال الله تعالى:" وَعَسَى أَن
تُحِبُّوا شَيْئا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ".,ولكن الأمة الإسلامية اليوم أحبت الدنيا وكرهت الموت فانحرف عنها رشدها،
وتحول العقل إلى مكر وشيطنة تضمن بها مغانم الدنيا الفانية، فكان مما عمد إليه
عباد الدينار والدرهم أن حرفوا الدين الإسلامي وجعلوه على مقاس أمرائهم وحكامهم،
فشابهوا بذلك أحبار اليهود وقساوسة النصارى واستخفوا عقول قومهم فأحلوهم دار
البوار.
وهذا هو ما
دفعني إلى تأليف هذه الرسالة الصغيرة، والتي أرجوا فيها أن أبين أنه ليس في
الإسلام من شيء أن تخضع أمة لسلطة رجل واحد ربما لا يدين هو نفسه بالولاء للامة ولا يهتم لمشاكلها حتى وانه ولم يرض الله شيئا إلا ارتضاه العقل السليم وتقبلته الفطرة
الزكية وإنما الذي جاء به هؤلاء من علماء
البلاط والسلاطين إنما هو بشائر الخراب، و شؤم العقاب تعسير الحساب.
"فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرٍهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" وإنه لا يفصل أمتنا عن هذا العذاب الأليم إلا
أيام إن لم يصلح حالها.
وهذه
الرسالة عسى الله أن ينفع بها الناس، جعلت فيها كل ما يكره الملوك ولا يحبون، و جمعتها
وقررت فيها ما استطعت من أحاديث، وتحريت في أمر أحاديثها وصحتها بما نقله أهل
الاختصاص حتى ممن خالف رأيي ومذهبي، فليس هنالك حرج أن تنقل كلام الاختصاص فيما
يخص مجالهم حتى وإن كانوا كفارا أولي جاهلية كأصحاب الشعر، وإنما عليك التحري في
مدى تمكنهم في الأمر، فننقل عن اللغوي اللغة، وننقل عن المحدث الحديث، وننقل عن
الفقيه الفقه، وهكذا ترفع الأمور إلى أصحابها وأهل الاختصاص فيها.
ولقد جمعتها
لنفسي وللناس لما اشتبه عليهم من أمر دينهم في السلاطين والملوك الذين جاؤوا بدين
جديد ما تكلمت به الرسل ولا الأنبياء، وجاؤوا بفكر جديد يجعل الناس قاطبة تخضع
لسلطة رجل وحده.
وهذا مما
يخالف فطرتنا، وإننا في الأصل أحرار مخيرون فيما نختار، ليس لأحد علينا إلا برضانا،
والله الذي خلقنا لم يقهرنا على الإيمان به في الدنيا، فكيف يأتي أقوام يقولون
بأننا مقهورون على أجسامنا أحرار بأرواحنا، فهذا والله الضلال المبين، فإنه إن لم
تكن روحك سيدة جسمك فلتفارقها فلا حاجة لها فيه.
ومن هذا
المنطلق والكلام الخبيث المدسوس بالدسائس وسنن اليهود والنصارى قررت أن لا نسكت
عليه و نبطل شبهاته كلها التي زعموها ونسبوها للمصطفى صلى الله عليه وسلم أو لأصحابه،
لأنه إذا استمرت هذه الفئة الحاكمة وعلماء سلاطينها فلن يكون حالنا إلا كحال بني
اسرائيل وزوال ملكهم، إذ قال الله تعالى:" وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
فِي الكِتَاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوّاً
كَبِيراً * فَإذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا *
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ
وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرِ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ
وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ
وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا
عَلَوْا تَتْبِيرًا"
أو هذه هي
سنة الله في خلقه، فإما أن تغيروا ما بأنفسكم من فساد في الحكم والخلق والمزاج
والطبع، وإما إن يسلط الله عليكم قوما آخرين ليرثوا الأرض ويدمروا جميع مقدساتكم
تدميرا، ولن يكون هذا التغيير إلا إذا خرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب
العباد، ولن يتغير الناس حتى تضرب بمذاهب رهبان القصور وأحبار النمارق عرض الجدران،
فتمحى من عقول الناس كل طلاسمهم، وتفك كل تمائمهم، فلا يبقى على ظهر الغبراء أحد
يجهل حقه ومستحقه وما يجب عليه، ولكن هذه المذاهب الناكسة والمتخاذلة والراكنة
للظلم إنما استولت على العقول بسطوة السيف، ثم أجبرت الناس على طول الأمل أنها
الحق وأن الباطل من جهارها بالسوء، ولكنها
كلها تلاعب بالكلام والمعاني وتحريف كتحريف بني إسرائيل فالله عز وجل قال:
"إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ
مَا بَيَّنـَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ".
الله لعن من
حرف الكلم عن مواضعه وللكلم مواضع وأحداث وأسباب، يكون لها ويصلح فمن نقلها لغيرها
من بعد ما جاءه بيان ما تصلح فهذا ممن يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا، وما
يفعل هذا إلا عالم السلطان، وكان عالم السلطان عند الله أحقر الخلق.
وأول شيء
نخالف فيه علماء السلطان اليوم هو تعريفهم للدين، فقد حصروا الدين في العبادة
والتوحيد النظري الخالي من مفهوم علمي، وكأنه فلسفة من القرون الظلامية تجعل من
الدين سلوك راهب لا يراعي مسؤولية اتجاه أي نظام قائم في العالم الخارجي، وحياته
مقصورة على الإيمان بخالق متجسد في عقل يسبح في فضاء فسيح، يتخيل نفحات إيمان
مجردة من الواقعية معزولة عن العالم الخارجي، فكل ما هو بالنسبة لهم الدين هو إن
تقول أنه يوجد إله واحد، بينما حقيقة ما أراده هذا الإله الواحد وما أمر به يبقى
غير معنيين به إلا عند ما يسهل عليهم فعله كإقامة شرائع تعبدية إو علاقات اجتماعية
بسيطة إو علاقات اقتصادية مالية، بينما يبقى الأمر بالمعروف - من أمر الله والنهي عما أنكر الله وحرم - مسؤولية غير واجبة،
وبل يتعدون في ذلك حدود العقل فيجعلون كل من قام بهذه المهمة خارج إطار الحاكم
الذي وضع نفسه ربا عليهم خارجيا ظالما متعديا.
حتى تغيير
المناكر ورد الظلم صار يحتاج لتأشيرة من الحاكم، أو أنه ظلم أكبر من ظلم حسب
تفسيرهم، ويستمر مع وجودهم فهم للدين خاطئ تدين خاطئ يستمر معه الظلم، والخشية هنا
أن تنفر الناس من الدين من كثرة هذه المفاهيم الآثمة والخاطئة التي تعزل الناس عن
الحق والحقيقة السامية للدين الإسلامي الذي جعله الله تجسيدا للعدل.
وعندما ظهر
هذا الفكر الآثم الذي عزل الناس عن دينهم ظهرت العلمانية كرد فعل إثم آخر ظلم
يقابل ظلما، يعني في ظل ضيق أفق التغيير بالنسبة للناس، صار لازما على الناس أن
تجد مخرجا من حالتها المزرية، وكان المخرج هو التملص من التشريع الإسلامي، وهذا من
المفارقات العجيبة وهو أن الفكر العلماني جاء لتحرير الناس من الظلم الذي تمارسه
الأديان الجائرة حسب زعمه، فخلق دينا لا يختلف عن إرادة تلك الأديان الظالمة، فكل
ما يريده الرهبان الذي يعملون في كنائس ومساجد يدعمها السلطان هو توفير الشهوات
لهم مقابل أن يوفروا هم للسلطان الفكر والدين الذي يدعم فطره وسلطته، وهذا جوهر
المشكل، فالعلمانية لم تحل المشكل الأزلي وهو انحراف الأديان، بل جاءت بدين منحرف من
بدايته وهذا لا يبشر بالخير لأي بلد.
فالذين
ثاروا في أوروبا على الكنيسة لإسقاط حكمها لم ينجحوا حقيقة، فالكنيسة التي كانت
تحكم قديما عادت لتحكم بأسلوب مختلف، فهدفها في النهاية هو تحقيق شهوات وليس تحقيق
غايات نبيلة أبدا.
والعجيب أنهم
استفادوا من العلمانية أكثر من أي فئة أخرى بتاتا، فقديما كانت الشعوب تكن العداء
وتشن الحروب على الكنيسة منهم المسلمون ذاتهم، ولكن اليوم بفضل العلمانية صار كل
فعل قبيح تفعله الكنيسة لا ينسب لها بل ينسب للنظام العلماني، بينما في الحقيقة هي
التي تقوم به وتحرض عليه فالكراهية اتجاه شعوب الشرق والمسلمين وشمال أوروبا
والهنود الحمر غرستها الكنيسة، بينما شنت الحروب باسم الدول العلمانية فصارت الكنيسة
تجسد دور الشيطان في جسم الإنسان يغرس الوسوسة وفي النهاية يقول: إني بريء ممّا
تعملون.
ما أود الإشارة
عليه بإلحاح أننا أمة جديدة مقارنة بتاريخ اليهود والنصارى، ونحن نحذو حذوهم ونسير
على سننهم بالذات، والمرحلة التي فيها أمتنا هي نفسها المرحلة التي كان فيها
النصارى قبل الثورة العلمانية الفاشلة التي قدمت للكنيسة أكبر خدمة.
نحن نعيش
ذات تلك المرحلة وأخشى أن أقول أن ثورة شعوبنا ستؤدي إلى بناء فكر مسخ جديد يندثر
على إثره الإسلام الحقيقي، أو يعيش حالة من اللاتصديق والعزلة الشديدة، وبعبارة
أدق إنهم يحاولون سرقة المسلمين منا ليجعلوا منهم جثثا فقط تسير بلا روح، لهذا
علينا النظر في حقيقة الدين وشرحه للناس قبل أن تتحول نظرة الناس إلى الدين نفسها
نظرة الرهبان، ثم تتطور إلى ثورة فاسدة مثل الثورة العلمانية في الغرب.
لهذا
رأيت أن يكون بداية هذا الكتاب مقدمة حول مفهوم الدين تحت عنوان:
بارك الله فيك يا اخي
ردحذف