ثورة النفس الزكية وابراهيم رضي الله عنهما

ثورة محمد بن عبد الله النفس الزكية وأخيه إبراهيم:
وبعد تسلط العباسين على المسلمين وتحول قبلة علماء السلطان نحو بني العباس، وكان أول ملوكهم السفاح، ووضعوا فيه بعض الأحاديث التي تمدحه وكلها أحاديث موضوعة، فهو لم يكن إلا سفاحا للدماء وكثير العطاء على حاشيته وقليله على غيرهم، وبعد موته تولى أبو جعفر المنصور الحكم ولم يكن رجلا صالحا، فلم يختلف عن بني أمية في أي شيء، ولعل قصة سفيان الثوري المشهورة معه تبرز مدى حجم المعاناة التي عانتها الأمة مع أبي جعفر المنصور، فعن سفيان الثوري قال: (دخلت على أبي جعفر بمنى، فقال لي: ارفع حاجتك؟ فقلت له: (اتق الله! فإنك قد ملأت الأرض جورا وظلما). قال: فطأطأ رأسه، ثم رفع وقال: ارفع لنا حاجتك؟ فقلت: (إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعا، فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم). قال: فطأطأ رأسه ثم رفع وقال: ارفع إلينا حاجتك؟ قلت: (حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهما، وأرى ها هنا أمورا لا تطيق الجمال حملها).-إحياء علوم الدين صفحة 144 ج  2-
لقد وصف الثوري حالة أهل المدينة والأنصار الذين كانوا في أشد الظلم، وكان أبو جعفر وأشياعه يعيشون على الترف والرفاهية، لكن كيف وصل أبو جعفر المنصور لسدة الحكم؟ بعد موت أخيه السفاح ترك الملك له، ولكن الشيعة الذين جاؤوا بالرايات السود من خراسان قديما والآن إيران جاؤوا وشعارهم أن البيعة للرضا من آل محمد، وهذا يعني أن البيعة ستكون في بني هاشم فيمن يرضاه الناس منهم، ولكن بني العباس سطوا على السلطة مباشرة وتوارثوا الحكم، ثم صار يقتل بعضهم بعضا فقتل أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني الذي كان المسؤول الرئيسي عن الانتصار على الأمويين ولكن من كان الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك الزمن؟
الإجابة حملها كتاب مقاتل الطالبين، فالعباسيون من قبل بايعوا ولد عبد الله محمد النفس الزكية، وذلك أن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ظهرت عليه علامات كثيرة تقول انه المهدي، فالتمس فيه بنو هاشم وأهل المدينة هذا وبايعوه، ومنهم آل العباس، ولكنهم نقضوا البيعة، ثم لما ملك أبو جعفر المنصور وظلم أهل المدينة وبدأ الحديث عند الناس عن المهدوية لشدة الظلم، فكلما اشتد الظلم نظرت الناس للمهدي، لأنه حسب أحاديث رسول الله يأتي بالعدل والنور بعد الظلم، وكان المنظور إليه من المدينة بلا منازع محمد بن عبد الله بن الحسن، ففزع أبو جعفر المنصور من هذا، ويفسر هذا رغبة أبي جعفر المنصور أن يكون ابنه محمد هو المهدي والذي يلقب بالخليفة المهدي عند أهل السنة، وهو ابن أبي جعفر المنصور، وشاء الله أن لا يكون لا محمد بن عبد الله بن الحسن المهدي ولا يكون محمد بن عبد الله أبي جعفر المنصور المهدي، ولكن قبل هذا أصر أبو جعفر المنصور على حضورهما حتى حبس والدهما عبد الله في ذلك، و إن أولاد عبد الله بن الحسن أصروا على الخروج لتفشي الظلم في مملكة أبي جعفر المنصور وسفك الدماء وعدم إعطاء الناس حقوقهم، فظهر خوف أبي جعفر جليا من تخلف ولدي عبد الله الكامل عن بيعته، وقال أبو فرج الأصفهاني: وكان أبو جعفر المنصور قد طلب محمدا، وإبراهيم فلم يقدر عليهما، فحبس عبد الله بن الحسن وإخوته، وجماعة من أهل بيته بالمدينة، ثم أحضرهم إلى الكوفة فحبسهم بها، فلما ظهر محمد قتل عدة منهم في الحبس، فلم تنتظم لي أخبارهم بإفراد خبر كل واحد منهم على حدته، إذ كان ذلك مما تقطع به حكاية قصصهم، فصدرت أسماءهم، وأنسابهم، وشيئا من فضائلهم، ثم ذكرت بعد ذلك أخبارهم، عليهم السلام.ص 166
وحصيلة من قتلهم أبو جعفر المنصور هم: عبد الله الكامل وكان من خيرة ولد الحسن وقتل في السجن وهو ابن خمس وسبعين، وأخوه محمد الذي قتله أبو جعفر المنصور، والحسن بن الحسن بن الحسن وهو عم النفس الزكية، وعمه أيضا إبراهيم بن الحسن بن الحسن وقتلوا كلهم في السجن، ثم لحق بهم علي بن الحسن بن الحسن، وطلب أن يحبس مع قومه فحبسه المنصور، وكان رجلا كثير الصلاة حتى روي أنه توفي ساجدا وعليه القيود، فقد كانوا في السجن مقيدين، أما ما ورد في فضلهم ما رواه أبو فرج الأصبهاني عن الحسن بن جعفر بسند عن عبد الله بن الحسن عن فاطمة الصغرى عن جدتها فاطمة الزهراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يدفن من ولدي سبعة بشاطئ الفرات لم يسبقهم الأولون، ولا يدركهم الآخرون" فقلت: نحن ثمانية. قال: هكذا سمعت.
قال: فلما فتحوا الباب وجدوهم موتى، وأصابوني وبي رمق وسقوني ماء، وأخرجوني فعشت.
فمات السبعة رحمهم الله من شدة ما كانوا فيه من العذاب  كلهم، وقتل أيضا في الحبس العباس بن الحسن وهو ابن خمس وثلاثين، وإسماعيل بن إبراهيم بن الحسن  وأخوه محمد هو المسمى الديباج الأصفر لجماله وقد أعدم بطريقة بشعة جدا.
ولما ظهر محمد وأخوه إبراهيم في المدينة وغلب عليها بعد مقتل أهلهم بالحبس، أرسل إليهم عيسى من موسى، ولما وصل إلى المدينة وجد أن محمدا خندق حولها خندق رسول الله وفي النصف من رمضان وصلت خيل عيسى إلى المدينة وحدث قتال مرير، وتحنط محمد واغتسل وحضر نفسه للشهادة وقد قال عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة: إنه لا طاقة لك بمن ترى، فالحق بمكة. قال: لو خرجت من المدينة وفقدوني لقتلوا أهل المدينة كقتل أهل الحرة، وأنت مني في حل يا أبا جعفر، فاذهب حيث شئت.
وهذا من أعظم مواقف النفس الزكية ورحمته بالأمة، فقد كان قادرا على الفرار نحو مكة ولكنه آثر أن يبقى ويقتل حتى لا يفعل أبو جعفر المنصور ما فعل يزيد بن معاوية بأهل المدينة، فهو يرضى أن يضحي بنفسه ويحمل رأسه لعدوه الذي قتل أهله كلهم في السجن فقط لكي لا يكثر أبو جعفر المنصور القتل في أهل المدينة، وهذا مثال عن الأمير المسؤول اتجاه حماية الناس، لا كما نجد بعض أمراء الجماعات اليوم يقومون بإشعال الحروب ثم يفرون منها ويتركون الناس وراءهم للقتل والموت، وكان سبب الهزيمة أن حميد بن قحطبة غدر ونقض بيعته من أجل المال الذي قدمه له عيسى بن موسى، وعن الحرث بن إسحاق، قال: برك محمد على ركبتيه، وجعل يذب عن نفسه يقول: ويحكم، أنا ابن نبيكم مجروح مظلوم، ثم قطع رأسه رضي الله عنه وحمل إلى أبي جعفر المنصور كبشارة نصر، وأي نصر إنه خزي وندامة.
وقد  انتقل أخوه إبراهيم إلى العراق، وسيأتي ذكر أمره أيضا، وكان ممن خرج من أهل العلم مع النفس الزكية: محمد بن عجلان وهو من كبار الأئمة، وابن هرمز، ولقد سأل الناس مالك بن أنس عن الخروج وقالوا إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد بن عبد الله، وفي سبب هذا حبس الإمام مالك ومات بالسجن رحمه الله.
أما الإمام أبو حنيفة أيضا فكان من الداعمين لهذه الثورة، وقتله أبو جعفر المنصور عن طريق السم في سبب دعمه لإبراهيم الأخ الشقيق لمحمد في العراق.
وخرج معه أيضا عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن وكان من علماء المدينة.
ولقد ركزت على قصة هذا البطل الذي خرج على بني العباس لأقول أن العترة من أولاد رسول الله لو كانوا يريدون الدنيا لوقفوا مع بني العباس في طغيانهم، وصاروا أحبار وندماء السلطان وظفروا بالدنيا، ولكن هؤلاء غضبوا لله عز وجل ولم يرضوا مذلة الطواغيت ولم يرضوا أن يعيشوا على مزابل السلاطين كالذباب، ولقد خرج مع الإمام محمد النفس الزكية ولدا الإمام زيد، وتعجب أبو جعفر المنصور من خروجهما مع محمد رغم أن آل العباس أخذوا بثأر والدهما الإمام زيد من بني أمية، ولكن غاب عن ذهن الطاغية أن يفهم ما يريده الناس الأحرار وهي حرية قائمة على أساس الاحترام في أرضهم وبين أمتهم، بينما هو ظن أن الناس عبيد له كلما قام بشيء جيد استعبد به الناس.
فبنو العباس لما أزاحوا بني أمية وخلصوا الناس منهم ظنوا أن ذلك كاف لاستعباد الناس، ووقعوا في نفس فساد بني أمية، ولكن شاء الله أن يبعث مرة أخرى من يفارق السلطان ويتبع سبيل القرآن إنهم أولاد الحسن بن الحسن.
لم تكن معركة متكافئة ولكنها كانت حرب إثبات حق وباطل، فأبو جعفر المنصور كسب المعركة سلاحا وظفر بالرؤوس، بينما ترك أولاد الحسن بن الحسن مذهبا سيبقى في رأس كل حر وفي قلب كل رجل شريف، وعزيمة من إيمان ستبقى تشع في قلب كل رجل مخلص للقرآن، وستبقى رواية ترويها كل أم صالحة لطفل سيربو من أجل أن يخرج الناس من ظلمة الاستبعاد إلى سماحة عبادة الله وحده تعالى.
لقد أثبتت قصة أولاد الحسن أنهم العترة التي ترث عزيمة رسول الله وتقاتل جنود السلطان الذين حاربوا جنود القرآن الذين يأمرون بالقسط من الناس، ولقد كان في قصصهم عبرة، وإن الناس نصرت طمعا في العدل والنور الذي يأتي ربما مع محمد بن عبد الله، الأبيات التالية تلخص ما أراده الناس من هذه الانتفاضة:
إنا لنرجو أن يكون محمد ... إماما به يحيا الكتاب المنزّل
به يصلح الإسلام بعد فساده ... ويحيا يتيم بائس ومعوّل
ويملأ عدلا أرضنا بعد ملئها ... ضلالا ويأتينا الذي كنت آمل

ولم تنته القصة عند محمد النفس الزكية وإنما استمرت مع أخيه إبراهيم الذي قتل رضي الله عنه بالعراق، وقد جمع بين محمد وإبراهيم علاقة حب أخوي كبيرة، فهما قريبان من بعضهما جدا، ومما يذكر له أنه قال إنه بعد مقتل أخيه إبراهيم ما أتى عليه يوم إلا واستطال ذلك اليوم ليلحق بأخيه، وانفجر باكيا بكاء شديدا لما علم بخبر شهادته لحبه الشديد لأخيه محمد، والمتدبر لقصة الأخوين يجد تشابها كبيرا بينهما وبين الحسن والحسين، فقد كانت تربطهما علاقة مشابهة لها كثيرا وحتى قصتهما تشابهت كثيرا.
ولكن أصحاب إبراهيم قاتلوا قتالا شديدا ولكن الله أبى إلا أن يكون إبراهيم شهيدا ويبقى أبو جعفر المنصور ملكا، حتى تأتي إمارة الصيبان حيث تحكم الجارية في مصير أمة، ولقد أخرج أبو جعفر المنصور رأس إبراهيم ووضعه بالسوق لكي يبث الرعب في نفوس الناس لكي لا يفكروا في الثورة عليه، وهذه سياسة ينتهجها جميع الملوك، وسبب موت إبراهيم اندفاعه وشجاعته ومشاركته في الحرب بنفسه، فقد أصيب بسهم لم تكن لتصيبه لو كان يتصرف كما يتصرف الملوك الجبناء الذين يختبئون وراء الجنود.
لقد التمس الناس في إبراهيم ما يذكرهم بالإمام علي، فقبل الكثير من العلماء من العراق كما سبق وذكرنا الإمام أبو حنيفة النعمان الذي  كان من أشد مؤيدي إبراهيم ومحمد من قبله ودعا لبيعته، ومنهم أيضا يزيد بن هارون وهشيم بن بشير حافظ وإمام بغداد، وكذلك العوان بن الحوشب الإمام الجليل، والكثير ذكرهم في كتاب مقاتل الطالبين بالتفصيل، وإنما أردت فقط أن أبين أن الناس ذلك الزمن كانوا يأبون الظلم والفساد في أمة محمد، وإنما يرضون الخير والجهاد في سبيل الله مع الصالحين من أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم، وآخر ما نقول في إبراهيم رضي الله عنه أنه أدى الذي عليه وعلم الأمة أنه لا طاعة تجب لمن سفك الدم الحرام.
ثم جاءت واقعة فخ التي قادها الحسين بن علي بن الحسن وقتل فيها رحمه الله، وكان فيها طائفة من أهل بيته منهم إدريس بن عبد الله بن الحسن أخو النفس الزكية الذي نجى و استخفى حتى وصل إلى أرض الأمازيغ بإفريقيا وبايعته القبائل هنالك طواعية وبالرضا، وتزوج منهم ثم دس له هارون العباسي السم، ولكن أراد الله أن يتم نوره ولو كره العباسيون فقد كانت زوجه حاملا بإدريس الثاني الذي تحققت على يديه دولة الأدارسة التي ساهمت في تقريب الإسلام واللغة العربية للأمازيغ ودامت ثلاث قرون، ولكن أسفرت عن انتشار كبير للنسل العلوي بمنطقة شمال إفريقيا في المغرب والجزائر خاصة، ومنها قبيلة أولاد نائل الإدريسية في وسط الجزائر.

وهنالك أخبار كثيرة لرجال من أهل البيت أيضا قادوا ثورات ضد الظلم والتجبر لا مجال لذكرها، ولكن ملخص الأمر هو أن القرآن والسلطة اختلفوا وأن الفئة التي وقفت مع القرآن هي هؤلاء الأئمة الكبار الذين حفروا في تاريخ الطغاة ثغرات فكرية ستكون هي المساهم الحقيقي في سقوط التجبر والتسلط باسم الإسلام على رقاب الناس بالباطل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق