القيمة الحقيقة للبيعة في الاسلام وددلة وجوبها على الطريقة الصحيحة

قيمة البيعة في الإسلام:
أول بيعة في الإسلام كانت بيعة الأنصار الأولى لرسول الله، كانت بيعة ذات طابع اجتماعي وعقائدي، أسس فيها رسول الله لمجتمع إسلامي سينمو بالمدينة المنورة، إن السؤال المطروح هنا لِمَ لَمْ يأخذ رسول الله البيعة الكبرى في أول مرة وإنما رضي منهم بالبيعة الصغرى؟
الإجابة على هذا السؤال مهمة جدا، فالحكمة من وراء هذه البيعة هو كون رسول الله يرغب في اختبار معدن الرجال الجدد، لقد كان اختبارا جيدا ينم عن الحكمة  لمعرفة مدى التزامهم بالأخلاق التي ذكرت في البيعة الأولى ونشرها في مدينتهم، ثم عودتهم العام المقبل من أجل لقاء الرجل الذي يؤمنون بأنه النبي الموعود في الكتب، هذا وحده الدليل الكافي على جودة هذا النوع من الرجال، هذا يبين لنا أن رسول الله لم يرد السلطة وإنما أراد أن يكون معه رجال يؤمنون بما يدعو له، فبعد عام كامل التقى الأنصار مع رسول الله عند العقبة التي عقدت فيها مقابلة بينه وبينهم كتمهيد لبيعة العقبة الأولى التي كان فيها عشرة من الخزرج واثنان من الأوس. 


فعن عبادة بن الصامت الخزرجي تحدث عن البيعة في العقبة الأولى، فقال: «كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن تُفترض علينا الحرب: على ألا نشرك بالله، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئًا فأمركم إلى الله عز وجل، إن شاء غفر وإن شاء عذب». 
 وسميت بيعة النساء لأن هذا ما يجب على النساء في الإسلام من البيعة، وما فوق ذلك فهو واجب على الرجال دون النساء، وهذا تكريم للمرأة وحفظ لها، وعموما فإن رسول الله التقى بوفد الأنصار ليلا ثم بايعهم بعد سنة ليلا، وهذا تجنبا للضغط الذي كان يمارسه طواغيت قريش على الدعوة الإسلامية، وهذا من الحكمة والرحمة بالأمة، وهو أن تتم أمور البيعات ليلا بعيدا على جنود وأعوان الظلمة لكي لا ينكلوا بالمستضعفين من المؤمنين، وهذا الدرس الذي لم تعه بعد الجماعات الإسلامية وهو إقحامهم الناس كبيادق في حروبهم، بينما كان يسعى رسول الله لبناء النظام أولا بعيدا عن إلحاق الضرر بالناس، ثم يجعلهم مشاركين في الدفاع عنه وتوسيعه، والمشكل اليوم أن هذه الجماعات وخاصة ذات الطابع الجهادي تتصدى إلى أشياء ثم تتراجع وتهرب تاركة الناس وراءهم يعانون ويلات المشاكل الناجمة عن هذا النشاط السياسي الفاشل.
تمهل رسول الله لأكثر من سنة للبيعة الأولى ثم سنة أخرى للبيعة الثانية، وإقامة البيعة بالليل بعيدا إنما هو ناتج عن الرحمة الكبيرة التي يكنها رسول الله اتجاه الناس، فهو يفضل التريث قبل أن يعلن وجوده السياسي لكي لا يشكل هذا خطرا على الناس المحيطين به، بينما غرقت اليوم أمتنا في التسرع الشديد للحركات السياسية والجهادية.
الحكمة الثانية أيضا من تأخير البيعة الكبرى هو إعداد المجتمع الجديد للإسلام والتأكد من صلاحيته للمهمة والتأكد من رغبتهم حقا في طاعة رسول الله.
لنفرض أن رسول الله انتهج نهج الجماعات الإسلامية الجهادية، وهو نهج لا يراعي أبدا رضا الشعوب عن القادة الجدد بل يفرضون قادتهم على الناس ويسمونهم أمير المؤمنين، عدد الذين أسلموا في مكة في بيعة العقبة الأولى ربما فوق السبعين، إضافة إلى حوالي عشرين مجموع المسلمين في المدينة تقريبا بحساب قريب العدد ربما كان قريبا من المئة، وبحساب بسيط نفرض أن عدد رجال المدينة المنورة كلهم 5 ألاف رجل وهذا عدد أكبر بكثير، يعني يصير عندنا نسبة 2 بالمئة من الرجال الذين هم في طاعة محمد صلى الله عليه وسلم، مبدئيا هو نبي الله لو طبق قوانين الجماعات الجهادية فالطاعة له وليست لغيره، يهاجر محمد للمدينة مع أصحابه ويبدأ بتطبيق الشريعة الإسلامية وإزالة الأصنام، فتحدث حروب في المدينة يموت فيها غالبية المسلمين وتصير الأمور هرجا وفوضى، النتيجة أن يكره الناس الإسلام، وهذا بالضبط ما تقوم به الجماعات الجهادية اليوم نشر الفوضى باسم الدين، فهم لا يمثلون من المجموع العددي للمجتمعات أي نسبة تذكر، فمن أصل 10 ملايين رجل يريدون أن يفرضوا عليهم رجلا بايعه 10 آلاف شخص، وللأسف كل أولئك مسلمون، ولتجاوز هذا  المشكل تسعى هذه الجماعات للتكفير الجماعي، بينما في النقيض منهم تبرز حكمة رسول الله إذ تخير من جميع المدن والقبائل أكثرهم تقبلا لكلامه وتعلقا بالنبوة التي تخصه صلى الله عليه وسلم، ولم يهدف إلى السلطة عليهم، بل أراد قلوبهم أن تكون معه، لم يرد أن يطبق قوانين لا يؤمنون بها، بل أراد أن تكون قلوبهم معه لهذا بعد بيعة العقبة أرسل إليهم من يصلي بهم ويعلمهم الدين، ووقع اختياره على مصعب بن عمير لما كان فيه من مميزات تجعله خير داعية للإسلام يشرح فيه أحكامه ويبين للناس معدن رسول الله، ويكون بمثابة السفير للدين الجديد حقيقة فقد صدق رسول الله، فقد كان الأنصار أكثر الأقوام تقبلا لرسالة رسول الله، لقد أرادوا التغيير، أرادوا العدل والحق، وبعد أن جاءهم رسول الله أدركوا أن الحق والعدل مع الله وحده، لقد التمسوا في رسول الله غايتهم وسرعان ما دخل الكثير منهم في الإسلام، وأسلم حتى سادة القوم، وبعد سنة كاملة اتضح حقا أن الأنصار يرغبون في ذات رسول الله ويريدون تأسيس دولتهم تحت قيادته، أسفرت هذه القناعة الكاملة والناجمة عن تدبر كبير لحال الحياة وما تؤول إليه بعد هذه الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله إيمانا حقيقيا قائما على أهم أساس وهو تحمل المسؤولية اتجاه الدعوة الجديدة، ومبني على أساس أن يكون فيه الفعل لا القول،
من هذه النقطة تأكد رسول الله من رغبة رجال يثرب في نصرته فتواعد معهم على البيعة الحقيقية، البيعة التامة، البيعة الكبرى أو بيعة الحرب، التي جاءت بعد لقاءات سرية بين رسول الله ورجال المدينة المنورة أيام التشريق، وأدت إلى الاتفاق على اللقاء ليلا وبكل سرية.
قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -:" .. فقلنا، حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف، فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين، حتى توافينا فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة».
قال: فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو من أصغرهم، فقال: رويدًا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتلُ خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم جبينة فبينوا ذلك، فهو أعذر لكم عند الله قالوا: أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبدًا، ولا نسليها أبدًا، قال: فقمنا إليه فبايعناه، فأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة".
من خلال كلام الصحابي جابر بن عبد الله ندرك جليا أن الأنصار أدركوا أنهم يرغبون في رسول الله أن يكون معهم، وقد ضاق عليه الحال في مكة فأيقنوا بضرورة أن ينصروه ولو كان فيه خطر على أنفسهم، وهذه هي البيعة الحقيقية التي يجب أن تكون لكل قائد من المسلمين، لقد أراد الصحابة أن يحموا رسول الله كما يحمون أولادهم ونساءهم، وهذا أشد ما يكون عليه حس المسؤولية والصدق في النشاط السياسي، وهو حماية إرادة الأمة التي تجسدت في رجل واحد.
بهذه الطريقة علمنا رسول الله المعنى الحقيقي للبيعة وجوهرها، وهي أنها رغبة الناس في اختيار قائد يجسد لهم إرادتهم راضين به، يقاتلون معه كما يقاتلون على أنفسهم وأموالهم، ولقد اشترط عليهم رسول الله الطاعة في السراء حيث النشاط يزداد، وعند الضراء حين يخمل الإنسان ويتكاسل، واشترط عليهم شرطا أصعب هو قول حق لا يخافون في الله لومة لائم، وهذا أشد الأمور على الناس، فطالما الناس تخاف سطوة الظالمين وتخاف بطشهم فيتركون قول الحق ويتبعون الهوى.
لهذا تريث بعض الذين أرادوا بيعته حتى يشرح لهم ما هم مقبلون عليه من أمور كبيرة، ومع ذلك أصر الرجال على تلك البيعة ولم يشترطوا إلا بقاء رسول الله معهم، وتمت البيعة وبدأ التخطيط للهجرة.
إن أهم ما يعتبر به الإنسان من هذه القصة هو الطريقة التي علم بها رسول الله قيمة البيعة ومعناها في نفوس أصحابه، لقد علمهم ما هم مقبلون عليه حقا، علمهم أنها كلمة يصحبها فعل كبير وتضحية وليست ورقة ترمى في صندوق مثل الانتخابات الغربية، أو بيعة إكراه تؤخذ بالقوة، ولكن إرادة تغيير يجسدها قائد يجب حماية هذا القائد بكل ما أوتي الإنسان من قوة، وهذا واجب الرجال وحدهم لأن النساء والأطفال يحتاجون للحماية ولا يحمون الرجال.
لهذا كانت بيعة الأولى تسمى بيعة النساء لأنها واجبة على النساء والرجال سواء، أما البيعة الثانية التي تؤسس للدولة فهي واجبة على الرجال دون النساء، ومن أشرك فيها النساء على سبيل الوجوب فإنما هو سفيه العقل مريض القلب.
إن قيمة هذه البيعة في الإسلام عظيمة جدا، وهي من الأمور الكبيرة في الدين وأهم أساس لها هو قول الحق لا يخاف الإنسان فيه لومة لائم، لهذا صار من غير الحق أن تكون على وجه الإكراه، بل صارت واجبا أن تكون على وجه الرضى والإدراك مما يولد حسا بالمسؤولية والرغبة في التضحية لدى المقبل عليها والمؤمن بها.
لهذا أسوق مجموعة من الأحاديث التي تبين لنا قيمة البيعة وكيف تكون:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَاهُ، إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَإِلَّا لَمْ يَفِ لَهُ، وَرَجُلٌ يُبَايِعُ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ العَصْرِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ، فَأَخَذَهَا، وَلَمْ يُعْطَ بِهَا" رواه البخاري. 
وهذا الحديث يبين شدة خطورة بيعة الأئمة والحكام من أجل الدنيا، ومن تدبر الحديث فلا يلومن إلا نفسه يوم القيامة، والكثير من الناس اليوم يتبع الحكام من أجل الدنيا وينسب عمله لله سبحانه وتعالى، والله بريء منه، لأن البيعة الحق يشترط فيها قلب مقتنع يسمع الحق ويطيع، بينما من بايع حاكما جائرا فإما هو راض بفساده فهذا ليس بصالح، أو هو غير راض عنه فبيعته غير صحيحة. 
فالبيعة الحق هي التي تنعقد في القلب وتعبر عنها الجوارح، وإنما هي قبل كل شيء شعور داخلي بالمسؤولية تحدد سلوكا سياسيا كاملا.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ بَايَعَ إِمَامًا، فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا رَقَبَةَ الْآخَرِ» قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: «سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي»، قُلْتُ: هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَفْعَلَ وَنَفْعَلَ، قَالَ: «أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ».
 وإن لم يكن إلا هذا الحديث الدليل الوحيد على أن البيعة التي يحاسب عليها الإنسان هي التي تكون على أساس الرضى فقط، فهو كاف لمن يجادل عن بيعة الجور أو بيعة الملوك لأبنائهم، فرسول الله اشترط أمرين: ثمرة القلب وهي التي تعبر عن مفهوم الرضى الداخلي، وصفقة اليد وهي التجسيد العملي للبيعة بالطاعة.
وأهمية البيعة في الإسلام ليست هينة فعدم وجود إمام في حياة الإنسان هو جزء من الجاهلية فعَنْ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إِمَامٌ، مَاتَ مَيْتَةً جَاهِلِيَّةً».
وهذا من الأصول المتفق عليها عند السنة والشيعة على اختلافهم في مفهوم الإمامة،
وبموجب هذا الحديث على المسلم أن يتدبر حاله السياسية ويعلم جليا أنه ما من أمة تترك بدون حساب، عليه أن يجد إماما يتبعه، إماما يؤمن بأنه القائد الفعلي الذي يجب أن يلتف حوله الجميع.
الأمر يشبه شجرة تغطي الجميع، هذا هو الإمام، على الإنسان أن يختار قائدا يشبه الشجرة التي يعيش تحت ظلها الجميع وتسعهم جميعا على اختلافهم، وقد تكون هذه الشجرة موجودة ولكن الجميع لا ينتبه لها، لهذا أيها المسلم الذي تبحث عن طريق الحق ابحث عن هذه الشجرة وبدل أن تموت في ظلال جدران الطغيان تنفس تحت هذه الشجرة طعم حريتك، ابحث عن هذه الشجرة وكن أحد من يسقونها.
 النية الطيبة هي التي تجعلك تجد هذه الشجرة، النية المرتبطة بالعدل والحق والنور،
البحث عن سلام يسع الجميع، البحث عن عدل ينصف الجميع، والبحث عن عالم خالٍ من حروب لا ترحم الصغير والعاجز الكبير، حروب لا تحترم فيها الإنسانية،
هذه النفس الهمامة التي تبحث عن الطمأنينة هي النفس المكلفة بإيجاد الشجرة الطيبة والعيش تحت ظلها.
قد تجد في طريقك الكثير من الأشجار، الكثير ممن يطلب البيعة لنفسه ولكنه شجر خبيث مصيره أن يقطع ولا تبقى له ظلال تستر من جاء تحته ويخدع الذي اتبعوه ويكتشفون أنه مجرد وهم، هنا أجابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا ولم يتركنا ضائعين فَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ، وَشَرٍّ فَجَاءَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟، قَالَ: «نَعَمْ فِتْنَةٌ، وَشَرٌّ» قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ، هُدْنَةٌ عَلَى دَخَنٍ» قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟، قَالَ: «تُهْدَوْنَ بِغَيْرِ هُدًى مِنْهُمْ»، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟، قَالَ: «نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ أَلْقَوْهُ فِيهَا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: «يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي؟، يَعْنِي: ذَلِكَ الزَّمَانُ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ النَّاسِ وَإِمَامَهُمْ»، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ؟، قَالَ: «فَاصْبِرْ، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ، وَأَنْتَ كَذَلِكَ» مسند البزار ومسلم بلفظ مختلف.
والحديث يبين فيه رسول الله لحذيفة أنه بعد الخلافة ستكون هدنة على دخن، وهي مصالحة معاوية والحسن رضي الله عنه والتي هي هدنة لحقن الدماء، والدخن فيها هو عدم اتباع معاوية لسنن رسول الله في الحكم لهذا قال رسول الله " تُهْدَوْنَ بِغَيْرِ هُدًى مِنْهُمْ"، ثم يكون بعد ذلك رجال وحكام هم عبارة عن دعاة على أبواب جهنم لما يفتحونه من فتن وحروب على أمة محمد، ويستحلون ما حرم الله ورسوله من سفك لدماء وقطع طرقات والاغتصاب...إلخ، كما حدث في موقعة الحرة، وكما فعل الحجاج بن يوسف الثقفي بمكة، والأمثلة كثيرة فرسول الله أمر حذيفة أن يلتزم أمير المسلمين الذي يراعي حقوق المسلمين ويختارونه ليكون الشجرة التي تحميهم، فإن لم تتوفر هذه الشجرة الطيبة فقد أمر الانسان بالاعتزال، ولو حاولوا إخراجه من هذا الاعتزال فالموت والإنسان يعض على جذع شجرة حقيقية أحسن من أن يبايع الدعاة على أبواب جهنم من الطواغيت الذين أذاقوا أمة محمد طعم السيف وقتلوا فيها وأفسدوا فيها كثيرا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع إلى يوم القيامة".
وإن رسول الله ربط بين الأئمة المضلين والسيف، فجعل من صفاتهم أنهم يأخذون أمة محمد بالسيف، فمن أطاعهم أوردوه الجحيم، ومن خالفهم سجنوه أو قتلوه، فلا نجاة للمسلم منهم إلا بالاعتزال، وربما لن ينفع الاعتزال معهم أصلا. 
والعجيب اليوم أن نجد من يحمل كلمة دعاة على أبواب جهنم على الخوارج والقرامطة وغيرهم، والحديث بعيد أشد البعد فهو يحكي عن الحكام من الناس، وبالضبط يحكي عن أولاد مروان بن الحكم وما أذاقوا الأمة من ويل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ: إِمَارَةُ الصِّبْيَانِ، إِنْ أَطَاعُوهُمْ أَدْخَلُوهُمُ النَّارَ، وَإِنْ عَصَوْهُمْ ضَرَبُوا أَعْنَاقَهُمْ " -مصنف ابن أبي شيبة-
وقد كان أبو هريرة يدعو أن يتوفاه الله قبل سنة ستين لما كان يعلم من أحاديث عن رسول الله أن امارة الصبيان مطلع الستين، وقد استجاب الله له رحمه الله، وسنة ستين بويع ليزيد بن معاوية وبدأت مشاكل الأمة، فلقد أذاق أهل المدينة الويل وأذاقه ايضا لأهل العراق، وفرق الأمة وجعلها شيعا، وهذه أكبر المصائب التي تركها وراءه،
وهذه بداية مشاكل أمتنا، حيث انحرف فيها الأئمة، فبدل إقامة العدل والحق توجهوا للإفساد والتخريب، ولكن هذا الفساد لم يكن وحده فقد صاحبه تحريف عقائدي كبير جدا، أول معالم هذا التحريف كانت بالترخيص للملكية في الإسلام، وهذا الترخيص للملكية فتح على أمة محمد أسوأ دعوة صاحبت تاريخها وهي الوصاية.
فحرف النهج السياسي في الإسلام على يد بني أمية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هلاك أمّتي على أيدي غلمان سفهاء".
لقد لجأت سلطة معاوية وابنه يزيد للكذب، فقد شرعوا لسلطة يزيد بذريعة سنة أبي بكر وعمر حين عهد أبو بكر لعمر، ولكن عبد الرحمن بن أبي بكر وعائشة كانا يقفان عقبة في طريق هذا التزوير، سرعان ما قتل عبد الرحمن مسموما ثم عائشة رضي الله عنها قتلت عن طريق سم كانت تقذف على إثره الدم من ثديها، والسؤال يبقى مطروحا من المستفيد من موت عائشة رضي الله عنها في هذا الظرف؟
كانت أقطاب معارضة المشروع الأموي تتمثل في الحسين بن علي أفضل المرشحين للخلافة، ثم ابن الزبير رضي الله عنهم، وعبد الرحمن بن أبي بكر وأخته عائشة أم المؤمنين، وأما موقف عائشة وأخيها كان واضحا وجليا في هذه القصة، فقد أورد البخاري عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، قَالَ: كَانَ مَرْوَانُ عَلَى الحِجَازِ اسْتَعْمَلَهُ مُعَاوِيَةُ فَخَطَبَ، فَجَعَلَ يَذْكُرُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لِكَيْ يُبَايَعَ لَهُ بَعْدَ أَبِيهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ شَيْئًا، فَقَالَ: خُذُوهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ فَلَمْ يَقْدِرُوا، فَقَالَ مَرْوَانُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ، {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي} [الأحقاف: 17]، فَقَالَتْ عَائِشَةُ مِنْ وَرَاءِ الحِجَابِ: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِينَا شَيْئًا مِنَ القُرْآنِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عُذْرِي»

وإن أردنا أن نعرف ما الشيء الذي قاله عبد الرحمن فسنرى ما أورده الشيخ البخاري أورده ابن أبي شيبة في مصنفه:
- حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَمزَةَ قَالَ: خَبِّرْنِي، قَالَ: لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يُبَايِعُوا لِيَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ قَامَ مَرْوَانُ فَقَالَ: سُنَّةُ أَبِي بَكْرٍ الرَّاشِدَةُ الْمَهْدِيَّةُ، فَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: لَيْسَ بِسُنَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ تَرَكَ أَبُو بَكْرٍ الْأَهْلَ وَالْعَشِيرَةَ وَالْأَصِيلَ، وَعَمَدَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ إِذْ رَأَى أَنَّهُ لِذَلِكَ أَهْلٌ، فَبَايَعَهُ"
لقد أرادت السلطة أن تقول أنها تستجدي شرعية هذه البيعة من شرعية أبي بكر وعمر، ولكن الفرق شاسع، فأبو بكر وكلته الأمة أن يختار، أما يزيد فوكلته أمه وأبوه أن يحكم الناس كملك وهو غير صالح لها.
أدى هذا التأويل الخاطئ المتعمد إلى تطور المعارضة إلى تأويل أخطر وأشد وهو الوصاية، فقد بدأت تظهر بوادر في العراق عن وصاية مزعومة من رسول الله إلى علي وأولاده، وهذا أورث الأمة أول مشاكلها، وهو ظهور فكرة الوصي التي جاءت بسبب فساد السلطة الحاكمة، لهذا نفهم الآن لم سمى الأئمة المضلين الذين يتخذون من السيف أداة للحكم بالخطر الكبير، لأنهم يورثون بالسيف عقائد باطلة في صف معارضيهم نتيجة ضيق الأفق السياسي، فكلما ضاق الأفق السياسي وزاد الظلمة لجأت الشعوب للخرافة لتجد فيها الضالة.
 إن الخرافة التي تجسدت في كون وجود أوصياء في أمة محمد كما في أمة إسرائيل أدى بالتأكيد لفساد كبير، فهنا بالذات بدأت تتشكل نواة معارضة ستتحول في النهاية إلى فرقة مخالفة تماما للسلطة الحاكمة بما في السلطة من محاسن ومفاسد، الرفض المطلق لكل ما في السلطة لأن السلطة ترفض المعارضة رفضا مطلقا يستوجب السيف والقتل، وكانت أول معالم هذا النهج قتل ريحانة رسول الله الحسين، وعدم الاقتصاص من قتلها خير دليل على رغبة قاتله في قتله.
اهتزت الأمة اهتزازا كبيرا بسبب هذه الفاجعة، لقد قطع آخر خيط بين السلطة والمعارضة للأبد، فتوجهت المعارضة للرفض المطلق، وهنا تشكلت نواة الروافض، والعاقل يدرك أن هذه الحركة لن تنتهي بعد أعوام من القمع، بل كلما قمعت ازدادت قوة يوما بعد يوم، لأن سنة الله تقتضي أن الروافض عقوبة من جنس الظالم، يعني ظلمة مثل الظالم، لكنهم عقوبة له خالدة، وهذا ما يفسر بقاء الروافض شوكة في ظهر أهل السنة إلى قيام الساعة يسمون أهل السنة وهل سينتهون ؟لا أبدا بل باقية الفتنة التي فتحت أول طرقها بموت الشجرة الكبرى عمر بن الخطاب، كل من جاؤوا بعده لم يسعوا الجميع كما استطاع.
ولكن سفاهة غلمان بني أمية دفعت المعارضة التي كانت غالبيتها من شيعة علي الرفض المطلق لما جاءت به السلطة، حتى وإن كان فيه الحق، والعاقل يعلم أن كل سلطة تأتي بالدجل يعني تخلط الحق بالباطل، لكن شيعة علي تطرفت ورفضت كل ما جاءت به السلطة رفضا مطلقا، وظهرت الروافض على إثر هذا وتبلور مذهب الروافض في القرن الثالث لتتشكل دولتهم بعد قرون، ليحملوا معهم الخراب للسنة حاملين معهم أمراض الماضي والحاضر ولعل سوريا والعراق خير شاهد وما الحجاز عنهم ببعيد.
إن الشفاء الوحيد لهذه المأساة المستمرة هو إعادة النظام السياسي الراشد بين جميع المسلمين سنة وشيعة وإزالة هذه الفوارق السياسية، ولو بحث الجميع لوجد أن السنن السياسية التي كان يمشي عليها الخلفاء الراشدون هي الحق وهي الفطرة التي فطر الله عليها الإنسان مخيرا غير مجبر، فالشيعة أجبروا الناس بوصاية لا أصل لها، والسنة أجبروا الناس بأحاديث فسروها على غير ما أتت عليه، وحرموا أمة محمد حقها من الاختيار والاجتهاد في سبيل الله.
واللوم يقع على أهل السنة أكثر من الشيعة، فعند أهل السنة كلام رسول الله وسيرة الخلفاء الراشدين ومع ذلك لم يسعوا لإعادة هذه السيرة ورضوا بالطواغيت والجبابرة، وبل زينوا لهم أعمالهم بالدجل والكذب، بينما الشيعة عقوبة ونتيجة لانتشار الظلم، فليس هم من يأتي منهم التغيير بل هم نتيجة حتمية لاستمرار ظاهرة فساد انطلقت من بيعة يزيد.
ولو أردنا أن ننظر لتاريخ أهل السنة لوجدنا أنه تاريخ مليء بالعار مع ما عندهم من علم، فلم تكن حياتهم مختلفة عن حياة ذلك الرجل المعلون الذي لا ينظر الله إليه الذي بايع إماما من أجل الدنيا، بينما كانوا يرون أولاد علي يموتون واحدا تلو الآخر دون نصرهم في مواجهة الطواغيت، لقد خذلوهم شر خذلان وبل كذبوا على دينهم إذ جعلوا من طاعة وليهم الطاغية من بني العباس وبني أمية واجبا من الدين، ووضعوا له أحاديث ليست فيهم أصلا وتركوا الرفض يزداد يوما بعد يوما، لقد خذل علماء السلطان أمتهم، خذلوا أبا بكر وعمر وعليا وعثمان وخذلوا أولادهم، خذلوا الجميع من أجل دنيا حقيرة، ثم اليوم نجد علماء السنة في الحجاز يتضرعون لوليهم ليصد مد الروافض المجنون، ولكن لا أحد يمكنه إيقاف سنن الله في الكون إلا إذا انتهجت نهج الله الحق وهو أن تقول للسلطان الجائر قول الحق.
لكن بدل ذلك وعبر قرون راحوا يوطدون لكل طاغية ملكه، فيأتون له بأحاديث ليست له ويشرحونها على أهوائهم لكي تتفق مع أهواء أسيادهم، فمباشرة بعد ثورة أهل المدينة على يزيد بن معاوية ورفضهم وبعد موته مباشرة قفز الوزغ مروان بن الحكم على السلطة في الشام بطريقة أو بأخرى وراح يجبر الأمة على طاعته بالسيف وبالقوة، وجعل نفسه خليفة الله في الأرض تباح له دماء الناس، واستباح كل المحرمات، ولتبرير حكم من جاء بعده جمع حوله منافقي القراء والعلماء لتظهر نواة فكر جديد وهي الرضا ببيعة الجور، ولا أدري لم رضي الحسين بالموت إن كان في دين الله ما يبيح بيعة الجور؟
لكن ظهر هذا المذهب القبيح وأباح للطواغيت أن تأخذ البيعة بالقوة تحت فكرة الإمام المتغلب، وقالوا اتفق أهل السنة على أن الإمام المتغلب على الأمصار بالقوة تجب له الطاعة لكي لا تحدث فتنة في الأرض، والحقيقة أن الفتنة وقعت حتى دخلنا في الجاهلية، فإن العاقل لا يرضى أن يبنى الجدار بالاعوجاج لأنه مهما ارتفع هذا الجدار سقط، وهذا بالضبط ما حدث في أمة محمد، لقد رضي البعض أن يبنى الجدار معوجا فسقط على أمتنا، وأسفر سقوطه عن أسوء مرحلة استعمار أصابت المسلمين في الصميم حتى شوهت تاريخنا وأفقدتنا لغتنا وهويتنا وكل شيء قاتلنا عليه منذ قرون.
إن سفاهة علماء السلطان لم تر أن مذهبهم هو الذي سيكون عامل سقوط أمتنا في الحضيض، في النهاية كانوا يخشون من فتنة ساعة تصيبهم ويجزعون منها، بينما في الأفق البعيد يوجد ما هو أسوأ من الفتنة، لقد خافوا على أنفسهم ودنياهم ونسوا مسؤولية كبيرة تنتظرهم عن كلامهم هذا الذي تسبب في النهاية في تفشي الفساد وانفصال الأمة عن السياسة، مما أدى بالملوك انتهاج سياسة اللعب واتباع آراء الجواري حتى سقطت آخر ممالك الإسلام، وبدل أن يقطع دابر الذين كفروا قطع دابر المسلمين.

وإنه صار من الواجب أن نبطل هذه الأفكار والآراء الفاسدة انطلاقا من الحديث النبوي الوارد في أمور السلطة والخلافة والملك، لهذا نضع بابا لرد شبه علماء السلاطين. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق