كراهة طلب الامارة

وفي السنن الكبرى للبيهقي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِّرَنِي عَلَى بَعْضِ مَا وَلَّاكَ اللهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عَبَّاسُ، يَا عَمَّ رَسُولِ اللهِ، نَفْسٌ تُنْجِيهَا خَيْرٌ مِنْ إِمَارَةٍ لَا تُحْصِيهَا" رقم 20216 ومثله في مصنف ابن أبي شيبة  بسند صحيح تحت رقم 32544
وهنا رسول الله يبين لعمه العباس أنه ما ما داع للبحث عن الإمارة حتى وإن كان فيها أجر، لأن العمل لدى رسول الله كأمير شرف كبير، ومع ذلك رسول الله يدل عمه العباس على عمل خير منها وهو إحياء الأنفس يعني الأعمال ذات الطابع الإنساني التي يتركز فيها العمل على الخير الذي يتفق الناس كلهم عليهم، هذا أفضل بكثير من الإمارة التي يسعى وراءها الكثير من الناس بحجة أن يضيع دين الله في الأرض.
وكأن الله سوف يضيع دينه سبحانه وتعالى، وإن الله لم يكلف أحدا بحفظ هذا الدين، وقد قال سبحانه وتعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، فالله في الآية الكريمة خاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن لا يتعجل لحفظ القرآن، فعلى الله حفظه وليس على محمد أو على غيره، والكثير ممن يسعون للإمارة اليوم يدعون أنهم يفعلون هذا محاولين حفظ الدين والبلاد والعباد، وهذا كذب، فالدين يحفظه الله والأرض يحفظها أصحابها.
إن من يسعون للسلطة يبقون دوما محل شك عند كل رجل لبيب، فلو أرادوا الخير فسبله كثيرة ومنها إحياء الأنفس "ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا". ولكن رغبة التسلط والحكم هذه موجودة في الكثير من الناس ولكن لا يظهرونها ويختبئون وراء الدين وحفظ البلاد والإصلاح، بينما هم يرغبون في الحكم والسلطة، وهي حالة من الغرور تأخذهم فهم يشعرون بنوع من الراحة والقيمة الكبيرة أثناء تمسكهم بالحكم، إنها لذة الشعور بالتسلط تشبه المرض الذي يتحكم بعقول الناس، إذ لا يشعرون بالرضى إلا عندما يكون كل شيء خاضعا لهم ويسير وفق هواهم، فهم دائما يحاولون إيجاد طريقة للوصول للسلطة، ومنها الكذب باسم الدين والكذب باسم الديموقراطية والكذب باسم الوطن...إلخ.
ولو كانت الإمارة خيرا لأخذها رسول الله لعمه العباس، ولكن رسول الله نفسه يعلم أنها نعم المرضعة وبئس الفاطمة، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ، وَسَتَصِيرُ حَسْرَةً وَنَدَامَةً، فَنِعْمَتِ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ".مصنف ابن أبي شبة 32542.
وإن عمر بن الخطاب لما أتته المنية تمنى لو أنه لم يدخل في الإمارة ولم يكن له منها ولا عليها، واليوم نجد من الناس من يتصارعون عليها ويرجونها ويزكون أنفسهم للناس ويقولون نحن أحق بالسلطة من فلان وفلان ونحن نصلح لكذا وكذا، والله يقول: "وَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ"، ويبثون صورهم في كل الأماكن طالبين من الناس اختيارهم وأنه بعد اختيارهم سوف يطبقون مشاريعهم التي سوف تجلب للناس الخير والعدل المنشود، وقد يصل بهم الحال لدرجة الكذب على بعضهم البعض في إطار التنافس، ويبهتون بعضهم بعضا أو يكذبون على الناس، فيقولون ما لا يفعلون، وكَبُرَ مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون، ويغتابون بعضهم بعضا ويلعنون بعضهم بعضا ويكذب بضعهم على بعض، ثم يرجون من الله أن يبارك لهم ويعينهم على الإمارة بل أن لن يكون لهم في السلطة قرين شياطين الجن والإنس يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، بينما في الإسلام جاء النهي صريحا بعدم اختيار من عرض نفسه على الإمارة.
ولقد حذرنا رسول الله من هؤلاء الأقوام الذين يعرضون أنفسهم على الإمارة والسلطة، فقد ورد في صحيح مسلم عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَرَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّي، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلَّاكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: «إِنَّا وَاللهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ».
يعني رسول الله يقول أنه لا يختار أحدا رشح نفسه للإمارة أو سألها، وهذا لأمرين: الأول أن الذي يسأل الإمارة لا يعينه الله عليها بل يوكله إلى نفسه، ورسول الله يقول: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وثبت في حديث مسلم أيضا قوله صلى الله عليه وسلم:" لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ أُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا"، أما الأمر الثاني وهو كون أن الإنسان الذي يسأل السلطة دوما يقدم وعودا أو كلاما يثبت أنه قادر على إنجاز مجموعة من المشاريع، مثلا  كأن يعد بإصلاح الأوضاع أو تخفيف المشاكل، ثم سرعان ما يعجز وهذا يسخط الناس عليه، فهو أولا قدم نفسه لشيء لا يطيقه وهذا أشد ما يكرهه الناس في الأمراء وهو الكذب، ثم سرعان ما يتعلق بالسلطة لما يجد من لذة حتى يحس أن الناس عبيد له وتغتر نفسه، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى سَرِيَّةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ لَهُ: «أَبَا مَعْبَدٍ   كَيْفَ وَجَدْتَ الْإِمَارَةَ؟» قَالَ: كُنْتُ أُحْمَلُ وَأُوضَعُ حَتَّى رَأَيْتُ بِأَنَّ لِي عَلَى الْقَوْمِ فَضْلًا، قَالَ: «هُوَ ذَاكَ فَخُذْ أَوْ دَعْ»، قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَتَأَمَّرُ عَلَى اثْنَيْنِ أَبَدًا " الحلية.
ورضي الله عن هذا الصاحب الجليل فقد صدق في وصف حالة الأمير خير صدق، فمن كثرة ما يحمله الناس له من التقدير حتى أحس أنهم نوعا ما عبيد له، فخاف على نفسه من الإمارة وقال لا أتأمر على اثنين أبدا.
وهذا حال المقداد بن الأسود فما بال الناس بحال رجل آخر كيف يأمن على نفسه بهجة السلطة ونزوتها العارمة التي تعمي القلب وتذهب عنه الخشوع لما فيها من عزة الدنيا، وكثرة ما يحيط بها من الرجال الفاسدين الذين يحبون الدنيا ويجيدون الكذب.
وكل هذا لنقول أن النظام الغربي يقدم المرشحين للسلطة ليمارسوا حملة من الكذب، كل واحد منهم يدعو لنفسه ويجعل من نفسه الرجل الصالح المنشود والمنقذ الموعود الذي يصلح على يده كل شيء، ثم سرعان ما يتبخر كل شيء، وفي أصدق حال يقوم بالمحافظة على استمرارية النظام، وإن حسنه يحسنه قليلا وهذا كله ضمن لعبة يدرك الجميع يقينا أنها كذبة لهذا لا أحد من الناس يريد تحمل نتائج الصندوق الانتخابي، ولكن في الإسلام حثنا رسول الله عن الابتعاد عن هؤلاء الذين يرشحون أنفسهم للانتخابات، وأثبت تاريخنا أن الذين سعوا للسلطة أفسدوا فيها، وأن الذين ابتعدوا عنها وجاءتهم وهم مكرهون أصلحوا فيها وكانوا خير مثال.
بينما غالبية من سعوا إليها أفسدوا فيها ولم يقض أحدهم أي وعد قطعه.
لهذا لتكن العبرة في هذه الأحاديث لاختيار الحاكم و أن نبحث عن الرجال الصالحين الذين لا يسعون للسلطة ولا يرشحون أنفسهم لها، فأولئك هم الرجال المستخفون الذين يقبلون على الأعمال الصالحة بعيدا عن أعين الناس، ويقبلون على أعمال الخير دون أن يعرف الناس عنها، يسودهم التواضع والشعور دوما بالتقصير ولا يظهرون فضلهم على الناس ويخفضون جناحهم للمؤمنين من الرحمة، قلوبهم من خوف الآخرة وجلة، يستحون من الله أن يمدحوا أنفسهم، يكتفون من الدنيا بالزاد القليل وهم قادرون على ملذاتها ومع ذلك يتركونه،  رحماء بأمة محمد وكأن أبناء هذه الأمة أبناؤهم، لا يخافون في دين الله لومة لائم ولا يخالطون السلطان الجائر، ولا يعملون عنده في جيوشه ولا شرطته ولا خزائنه ولا وزارته ولا يقبلون هدايا السلطان الفاسد، ويرضون من الدنيا بالقليل حتى وإن ضاقت عليهم فقلوبهم مليئة بالرضى وأفواههم مليئة بالحمد والتسبيح شاهدين على أنفسهم بالظلم.
هذه هي الفئة التي أهملها المجتمع الإسلامي وراح يجري وراء كل من يرشح نفسه ويحمل معه مشروعا اقتصاديا أو سياسيا، بينما في الحقيقة يجب إهمال هؤلاء أصلا والبحث في الأفق البعيد عن القادة الذين لا يحبون الحكم، لأن هؤلاء الذين لا يحبون الحكم هم من سوف يسعون لتحرير الناس من جور الحكام وظلمهم وفسادهم، بينما من يريدون أن يصبحوا حكاما عن طريق إدارة فاسدة لن يكون لهم صلاح، فعلينا الإقرار أن للمجتمع المسلم طبيعة مختلفة عن المجتمع الغربي ونموذج المجتمع الغربي لن ينجح معنا أبدا، فنحن على النقيض معهم في التفكير والمزاج، فإن كانوا هم يجسدون نظاما مبنيا على ترشح أفراد منهم فإن النظام الذي يجب أن نبنيه يجب أن يكون مبنيا على أفراد لم يترشحوا للسلطة.
إن كان المجتمع الغربي لا يريد إلا الحياة الدنيا فإن أمة محمد تبحث عن الآخرة قبل الدنيا، وكما أن الدنيا والآخرة متناقضتان فكذلك أمة محمد والغرب هنالك تناقض جذري بين المكون الغربي والمكون المسلم، وعلى المسلمين التفطن إلى أنه لن يصلح أبدا أي شخص منهم يترشح للانتخاب، وهذا لأن المكون النفسي للرجل المسلم المترشح للانتخاب يبين أنه غير ملتزم أبدا وهذا لأن الانسان المسلم الملتزم يتأكد من حجم المسؤولية يوم القيامة، ولا يتمنى مؤمن أن يحاسب هذا الحساب كله، وإذا وجدت شخصا يترشح لها وينازع عليها فاعلم أن في التزامه مع الله خللا كبيرا، فكيف تتوقع بعد هذا أن يكون التزامه مع الناس؟ بالتأكيد لن يكون التزامه مع الناس جيدا.
بينما المجمتع الغربي لا وازع ديني له يمنعه من الترشح للسلطة، لهذا لن يجد أي مشكل في الالتزام في كلامه فهو شخص غير مؤمن بكل هذا الحساب لهذا لن يصعب عليه تقديم وعود مبنية على حسابات مادية ووفق ثقافته التي تحث على العمل وتربي عليه، سوف يجد نفسه حقق البعض مما وعد به الناس ولن يغضب الناس كثيرا لأنها مسألة وقت ويأتي موعد انتخابي آخر ويأتي شخص آخر ينتخب ويكذب قليلا...
 بينما في العالم الإسلامي من ترشح للسلطة وهو يعلم ما فيها من حساب فهذا قلبه ليس فيه ذرة إيمان ولا يريد سوى الحياة الدنيا، ولهذا لن ينجح أحد منهم في نصرة الإسلام ولا رفع الغبن عن أمة محمد، وينتهي بهم الأمر في الصراع على السلطة تارة باسم الإسلام وتارة باسم الشيوعية وتارة باسم الثورة.
ولهذا فإنا ننصح الباحثين عن الحكم الحق والإمام العادل بالابتعاد عن الذين يرشحون أنفسهم، فهم عادة تجدهم من أبعد الناس عن العمل بالحق، وعلى الناس البحث عن الإمام الحق الذي يهرب من السلطة ويبتعد عنها.
ولكن هذا يطرح إشكالية وهي كيف للناس أن تختزل دائرة البحث وسط الملايين من الناس؟ لقد دل رسول الله الناس وأشار معهم بمشورته صلى الله عليه وسلم حتى يكون مساهما في مساعدة الناس على إيجاد الخليفة، وقد كانت مشورته رسول الله لأمته أن أمرهم أن يكون الخليفة قرشي النسب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق