الاصل الثاني تحمل المسؤولية


- لقوله تعالى: "  وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى"-
الوزر هو الإثم والوازرة هي النفس العاملة بالآثام.
لقد وضح الله لعبيده السبيل الصحيح للحساب المتمثل في تحمل المسؤولية الكاملة عن جميع تصرفاتهم واختياراتهم في هذه القصيرة والفانية التي سرعان ما تدرك نهايتها، ولهذا فكل نفس  مطالبة بالبحث عن الحقيقة وإدراكها واتباعها قبل أن يغافلها الموت، والعقل السليم الذي أودعه الله فينا هو القوة التي نستعملها في التمييز بين الحق والباطل بين النبي والدجال، ونختار عندها من نتبع، النبي الذي طريقه في الدنيا شاقة وفيها الألم، والدجال الذي يعدنا الحياة الدنيا.
لقد كان هذا هو الابتلاء الذي يتعرض له القلب، فمع إدراك العقل للحقيقة الكامنة وراء المذهب الرباني فإن القلب يفسد بمخالطة الشهوات السفلية، وينحدر مستواه ويفقد رغبته في التزامه بالخط المستقيم الذي ارتضته الفطرة.
ولما كانت الآثام دوما مصدرها التعلق بالعنصر السفلي وإهمال العنصر العلوي، فإن مسؤولية الإنسان في الآثام كاملة عكس مسؤوليته في المحاسن، فالمحاسن هي الفطرة التي فطر عليها الناس وليس للإنسان فضل في وجودها، بل هي موجودة مسبقا فيه،
لكن الآثام هي ما جلبه إهمال العنصر العلوي للإنسان واستعمال العنصر السلفي للعيش بدله.
ولكن في العقل مكانا دوما يرفض وجود العنصر السفلي في مكان العنصر العلوي، وهنالك مكان في العقل يدرك أن الإنسان لم يولد ليأكل ويشرب ويتناسل فقط، بل ولد ليجد حقيقة مختلفة عن هذه الحقيقة الموجودة بالمادة البشرية، ومهما حاول العقل المفسد تشويه هذه الحقيقة وتحويلها إلى وهم، فإنه يبقى عاجزا أمام نظم العقل المثالية التي ترفض العدم المطلق الذي تصل إليه الحقيقة السفلية.
فالإنسان كائن ثديي كجميع الكائنات، لديه جسم سيفني في النهاية، لكن بداخله روح مكلفة همامة تحمل في أجنحتها هما ودورا عليها أن تقوم به في يوم ما من أجل شيء ما، هذا الدور يعرفه جميع الناس فطرة وهو موجود في عقولهم، لكن أكثرهم يتهربون منه، فمنهم من يحرف دينه ومنهم من يتبرأ من دينه ومنهم من يقتل في الشهوات ومنهم من يعمي عقله ويسلمه لغيره ليستعبده.
فكل البشر يحاولون التميز عن الحيوان في خلقهم، ويغضبون عند تشبيههم بالحيوان لكن الحقيقة هي أنهم يريدون أن يكونوا حيوانات بأنفسهم، بل هم يتوسعون أكثر في دفن الإنسان وقتله، لكن هذه التجارة الخاسرة التي يقوم بها أغلب البشر منذ قرون لم تثمر ولن تثمر أبدا، ومهما اخضر عشبها فسرعان ما سوف يصفر وتحطمه الرياح، والله أعلم بعباده من أنفسهم، فلهذا قد حملهم مسؤولية اختياراتهم ومسؤولية كل شيء في حياتهم حتى يلقوه وأمدهم بالعقل والفطرة السليمة التي تضمن لهم تمييز الحق من الباطل، فكل نصره يحققونه هو بفضل فطرة الله التي هي فيهم، وكل خزي يقع بهم هو مما كسبت أيدهم التي تركت فطرته وسعت في خراب عرشها العظيم الذي بناه الله لها، وأعظم عرش وأعظم بناء للإنسان هو أن يحافظ على البناء ذي الصبغة الإلهية الموجود بداخله، والذي لا يحتاج لا إلى حجارة أو أعمدة من حديد ليبقى، بل يحتاج إلى عقل سليم وقلب صاف، ولقد كان هذا العرش العظيم الموجود بالإنسان أعظم هدية يقدمها الله لعباده، فلا يجب على الإنسان أبدا أن يسكن إلى غير هذا العرش، ولا ينبغي للإنسان أن يهرب من هذه الفطرة السليمة التي هي مصدر نجاته ونجاحه.
لقد قضت هذه الفطرة العظيمة أن تكون مسؤولا عنها يوم القيامة أمام الله، وأي سؤال  ستسأل عنها وحدك دون أن يكون معك من تقلده ودون أن يكون معك من تتبعه.
سوف تسأل لماذا اتبعت وكيف اتبعت ومن اتبعت، سوف تسأل ولماذا خالفت وكيف خالفت ومن خالفت.
كل ما كنت تخشى أن تجعل عقلك يتفكر فيه ستسأل عنه يوم القيامة حرفا بحرف وكلمة بكلمة و كتابا بكتاب.
فأي مقام أن تقوم أمام الله وأنت لا تدري فيما كتب كتابك كله، ولا تدري أحق ما فعلت أم أنك كنت مجرد إمعة أينما ذهب قومك وأسيادك اتبعت، وكيف تريد أن تقابل الله وكل كتابك بصغير اأره وكبيره قد وكلت غيرك فيه فأفتى لك واتبعت فيما يخالف فطرتك ويخالف عقلك.

فكم من الناس من يتبع الفقهاء وأئمة السوء وهو يعلم أن فطرته لا تقبل ما يقولون وعقله بريء مما يصفون، و إنما يتبعهم خوفا على دنيا وطمعا في مقام كريم فيها.
فلا توكل أحدا أبدا أن يأخذ عقلك وحقك في بنائك الفكري، وحقك في التفكير والبحث عن الحقيقة على الأقل في القضايا الكبرى والتي تعيش بها الامة كاملة، فقد نسلم لبعض البعض التفكير في الفروع التي يختص كل واحد في أحدها، ولكننا لا نسلم أصول عقولنا وفطرتنا التي نشترك فيها جميعا، لكن العقاب المترتب عن مخالفة هذه الأصول كبير جداولا يمكن النجاة منه إلا بتحكيم هذه الأصول التي اقتضاها لنا مسبقا قبل أن تخلق أجسامنا، .
وهذه الأصول العقلية الموجودة في عقل كل عاقل هي مناط التكليف والمحاسبة التي يتحمل عليها الإنسانية المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق