التصور الإسلامي وتعارضه مع التصور الغربي في السياسة

في المجتمع الغربي دوما ما يخرج مجموعة من الناس يطلبون السلطة لأنفسهم، كل واحد يحمل معه مشروعا يكون بمثابة الحل الأمثل لجميع المشاكل ولجميع الناس، ويبدأ بإطلاق الوعود، وعادة لا يفي أحد بوعوده وإن وفى أحدهم فقط ببعض الوعود،  وهكذا تكون عند الناس شعور قوي حول ارتباط السياسة بالكذب، فأصبح  السياسي يرمز إلى رجل كذاب، ولكن في الإسلام نجد أن الكذب في السياسة من أكبر الذنوب، ففي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ثَلَاثٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: مَلِكٌ كَذَّابٌ، وَالْعَائِلُ الْمُسْتَكْبِرُ، وَالشَّيْخُ الزَّانِي" مسند أبي يعلي الموصلي بسند صحيح  6212.
إن التصور الإسلامي للملك الذي يعطي وعودا ويخلفها هو تصور احتقار لأنه ما من شيء يدعو الأمير لنقض وعوده سوى رغبته في خدمة نفسه وعدم الاشتغال بحوائج الناس ولا بما يهتمون له، ويقتصر دوره على التسلط عليهم فقط، إن خالفوه عاقبهم وإن أطاعوه أضلهم أو لم يعطهم حقوقهم.
ورسول الله حقر هذا الجنس من السياسين من ملوك وغيرهم ودعا عليه، ففي الحديث الصحيح في شعب الإيمان ومسند أبي يعلى واللفظ لأبي يعلى الموصلي عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ مُرَّةَ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" مَا مِنْ وَالٍ أَغْلَقَ بَابَهُ عَنْ ذِي الْخَلَّةِ، وَالْحَاجَةِ، وَالْمَسْكَنَةِ إِلَّا أَغْلَقَ اللهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ عَنْ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ " مسند أبي يعلى الموصلي 7001.
بل وإن نظرة الإسلام للإمارة أكثر من ذلك ،فإنما تجعل من الإمارة مسؤولية ترقى لدرجة الوزر، بل ربما هي شر إلا في حالة استكمال العدل والخير، ومن هذا الذي يرقى لتلك الدرجة التي لا تستقيم لأحد إلا بالتضحية الكبيرة والصبر الشديد وإيثار الناس على نفسه ومن يقدر على هذا !!
وربما الكثير ممن يسعى للسلطة والإمارة  يحاول أن يعمي نفسه عن كونها مسؤولية كبيرة أكثر مما يطيق الإنسان خاصة في هذا الزمن لكثرة الناس واختلافهم، فيكاد يكون العدل الكامل شبه مستحيل، ومع ذلك يحاول إيجاد التبريرات لرغبته في السلطة فتارة تجده يقول أنه يريد إصلاح ما أفسده النظام السابق، وتارة يقول إنه يريد إيقاف الفساد...إلخ، وكل هذا مرده، ولكن أحاديث رسول وآثار الأصحاب والتابعين أثبتت أنها حقا مسؤولية لا ينجو منها إلا قليل، وإن نجوا من النار يوم القيامة فلن ينجو حدهم من الحساب، ومن تمت محاسبته فقد عوقب فإنه حساب عند رب الجبارين، وعلى صراط من تحته جهنم قعرها أسود مظلم، ففي شعب الإيمان للبيهقي رحمه الله عَنْ بِشْرِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِيَسْتَعْمِلَهُ عَلَى بَعْضِ الصَّدَقَةِ فَأَبَى أَنْ يَعْمَلَ لَهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُتِيَ بِالْوَالِي فَيُوقَفُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ فَيَأْمُرُ اللهُ الْجِسْرَ فَيَنْتَفِضُ بِهِ انْتِفَاضَةً يَزُولُ كُلُّ عَظْمٍ مِنْ مَكَانِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ اللهُ الْعِظَامَ تَرْجِعُ إِلَى أَمَاكِنِهَا، ثُمَّ يَسْأَلُهُ فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعًا أَخَذَ بِيَدِهِ وَأَعْطَاهُ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِيًا خَرَقَ بِهِ الْجِسْرُ فَهَوَى فِي جَهَنَّمَ مِقْدَارَ سَبْعِينَ خَرِيفًا" فَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ نَسْمَعْ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَكَانَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَأَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ، فَقَالَ سَلْمَانُ: إِي وَاللهِ يَا عُمَرُ بْنَ الْخَطَّابِ، " وَمَعَ السَّبْعِينَ سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي وَادٍ مِنْ نَارٍ يَلْتَهِبُ الْتِهَابًا"، فَقَالَ عُمَرُ بِيَدِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَنْ يَأْخُذُهَا بِمَا فِيهَا؟ فَقَالَ سَلْمَانُ:" مَنْ سَلَبَ اللهُ أَنْفَهُ وَأَلْزَقَ خَدَّهُ بِالْأَرْضِ".
وفي نفس الكتاب وفي نفس الباب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلَّا وَهُوَ يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولًا حَتَّى يَفُكَّهُ الْعَدْلُ، أَوْ يُوبِقُهُ الْجَوْرُ ".
فسبحان أن يوجد في الإسلام من يقرأ هذا الحديث ويرغب في الإمارة والسلطة، فلا أحد سيرغب فيهما بعد هذه الأحاديث، بل إن العاقل يهرب منها أشد الهرب ويقول مقولة عمر رضي الله عنه: "وددت أنه ليس لي منها وليس علي منها شيء".
فعند مسلم أيضا عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق