وجوب تحلي الخليفة بالرحمة

وجوب تحلي الخليفة بالرحمة اتجاه الأمة:
قال رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَلَا يَنْصَحُ إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ والبيهقي في السنن الكبرى.
وقال أيضا: " مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ.
وهذه الأحاديث تحث على أن الخليفة يجب أن يسهر على تعليم الناس ونصحهم ويجتهد في خدمتهم ورعاية مصالحهم، فيكون لهم بمثابة الأب الذي يرعى شؤون أولاده ويهتم لهم ولا يبخل عليهم بالنصيحة ويدلهم على الطريق الصواب ويأخذ بأيديهم نحو الطريق الحق، ويعفو عنهم كما يعفو عن أولاده ويذود عنهم كما يذود عن ولده، فتأوي إليه الأمة عند كل شدة وتطمئن له القلوب عند كل محنة، ويرغب فيه الصغير لرحمته ويسمع له الكبير لما فيه من احترام للناس وتقدير لهم.
ومن المواقف التي تبين أن الرحمة كانت ضرورية في ولاة الأمور والأمراء ما رواه البيهقي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ عَلَى عَمَلٍ فَجَاءَ يَأْخُذُ عَهْدَهُ، قَالَ: فَأَتَى عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِبَعْضِ وَلَدِهِ فَقَبَّلَهُ، قَالَ: أَتُقَبِّلُ هَذَا؟ مَا قَبَّلْتُ وَلَدًا قَطُّ. فَقَالَ عُمَرُ: " فَأَنْتَ بِالنَّاسِ أَقَلُّ رَحْمَةً، هَاتِ عَهْدَنَا، لَا تَعْمَلْ لِي عَمَلًا أَبَدًا " ج 9 ص 73 رقم الحديث  17906
وعمر رضي الله عنه ضرب لنا مثلا بأن الرحمة ضرورية في الأمير، فإن كانت عليه علامات قسوة القلب فاستعماله يكون بمثابة خيانة لهذه الأمة وغش لها، لأنه إن لم يكن رقيق القلب مع أمته مشفقا عليها راحما لها فإن شره يكون أكثر من خيره، وإن من لم يرحم ولده لن يرحم أمته.
وعن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  اللهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ، وَمَنْ شَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ ".
ومن أمثلة هذا الرفق بالأمة الآثار التي تركها عمر بن الخطاب رضي الله عنه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَأَلَهُ: " إِذَا حَاصَرْتُمُ الْمَدِينَةَ كَيْفَ تَصْنَعُونَ؟ "، قَالَ: نَبْعَثُ الرَّجُلَ إِلَى الْمَدِينَةِ ونَصْنَعُ لَهُ هَنَةً مِنْ جُلُودٍ. قَالَ:" أَرَأَيْتَ إِنْ    رُمِيَ بِحَجَرٍ؟ ". قَالَ: إِذًا يُقْتَلَ. قَالَ:" فَلَا تَفْعَلُوا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَسُرُّنِي أَنْ تَفْتَتِحُوا مَدِينَةً فِيهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ بِتَضْيِيعِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ" السنن الكبرى للبيهقي.
عمر بن الخطاب يأمره بعدم المخاطرة بأي رجل مسلم ولو أدى ذلك إلى فتح حصن فيه الآلاف من الجنود، واليوم نجد بعض الأمراء ممن يرسلون الشباب لتفجير أنفسهم من أجل قتل عشرة أو عشرين رجل من نفس البلد والدين، أين رحمتهم بأمة محمد، وأين رفقهم بالرجال المسلمين، وأين هم من أخلاق الخلافة التي يدعون لها وهم ليسوا بأهل لها؟
إن هؤلاء أدعياء الخلافة والإسلام ليسوا أبدا بأهل لها وهم بعيدون عنها أشد البعد، فقلوبهم القاسية أشد من قساوة الحجر تجعلهم لا يرحمون المسلمين صغيرهم وكبيرهم، ويفتكون بهم بأشد الأسلحة فتكا، يفجرون كل الأماكن ويشعلون كل المناطق ثم يفرون تاركين وراءهم المسلمين يعانون، كل هذا باسم الخلافة التي من المفروض أن تجلب العدل والنور فصارت تجلب الدمار والخراب للناس باسم الدين، وهذا لأن الذين حملوها ليسوا أهلا لها لأن غايتهم منها التسلط فقط بالرأي، فهم يريدون أن يخضع الناس لأفكارهم ولو كانوا لهم كارهين.
هؤلاء الذين يدعون أنهم يريدون خلافة مثل خلافة عمر بن الخطاب ولقد كان في عمر لهم مثل، فهذا عمر يفضل أن لا يفتح الحصون التي فيها الجنود بالآلاف بموت مسلم واحد من جيشه، وهذه قمة الرحمة التي أودعها الله في قلب الخليفة الحقيقي، فهو يراعي المسلمين ويراعي حاجة أهلهم لهم، فهو يعلم أن وراء كل رجل عائلة وأسرة وأما وزوجة وابنا وابنة.
توجد الكثير من العلاقات الإنسانية عند رجل واحد وإن هدر تلك العلاقات بتعريض ذلك الرجل المسلم للخطر عمل خاطئ وغير صائب، فهو يفكر في رجاله وأمته، يفكر فيهم وفي أولادهم ومن يعولهم، وهذا هو الخليفة الحق الملك العادل الرجل الصالح الذي يجب أن يكون عليه قائد الأمة.
ومن أهم خصال الرحمة في الخليفة أن يكون شديدا على الأمراء وقادة الجيش  وأصحاب المال، ويكون رحيما بالفقراء والمستضعفين والنساء المطلقات والأرامل والأيتام، وإن ما يحضرني بيت شعري تمثلت به عائشة رضي الله عندما حضرت المنية الصديق فقالت:
وأبيض يستسقى بوجهه الغمام      ربيع اليتامي عصمة الأرامل
فقال لها أبو بكر هو والله رسول الله.
هكذا كان رسول الله بالنسبة لليتامى، هو الربيع الذي يجلب معه الخضرة والورود الجميلة والشمس الدافئة التي تأتي بعد الشتاء، بينما بالنسبة للأرملة فهو الرجل الذي يعصمها من أن تدنس نفسها من المال الحرام ويكفيها بالحلال عن الحرام ويحميها من السفهاء ممن يحاول استغلالها.
وهذه أمثلة صغيرة عن الإمام العادل والحاكم الصالح الذي يجب أن تسمع له الأمة وتطيع، أما لو تطرقنا إلى صفاته فهي كثيرة جدا، وإنما أردت أن أبين أهمها وهي الرحمة التي يجب أن يتصف بها في التعامل مع الناس وخاصة الضعفاء منهم.
وهذه الصفة الطيبة لا تكون إلا في قلة من الناس محصهم الله بالبلاء وجربهم في المحن وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ فَقَالَ: «النَّبِيُّونَ»، فَقُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ الصَّالِحُونَ، إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إِلَّا التَّمْرَةَ أَوْ نَحْوَهَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى فَيَقْمَلُ حَتَّى يَنْبُذَ الْقَمْلَ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ بِالْبَلَاءِ أَشَدُّ فَرَحًا مِنْهُ بِالرَّخَاءِ».
ولكن في قصة طالوت التي تبين طبيعة الكثير من البشر نرى أن الناس ينظرون للأغنياء ليكونوا ملوكا لهذا في احتجاج بني إسرائيل على أمر طالوت قالوا: لم يؤت سعة من المال، فكانوا يرون أن الصفة التي يجب عليها أن يكون عليها الخليفة وهي أن يكون غنيا ومن أسياد القوم، ولكن الله يأتي بالخير من حيث لا يحتسب الناس، ولقد أثبتت سير الصالحين والخلفاء الراشدين أن أكثر الناس بلاء هم أصلحهم للخلافة وأصحلهم للعدل، وأن أكثر الناس مالا أكثرهم بخلا وحبا للدنيا وتسلطا وتجبرا، وقلوبهم تفزع أشد الفزع على الدنيا، فلهذا تزرع في قلوبهم القسوة وتذهب عنهم الرحمة بسبب كثرة ما خالطوا من الدنيا، ومن كثرة ما تمتعوا فيها بالأكل الجيد واللباس الباهظ والمراكب الفخمة والقصور الكبيرة، فتقسى قلوبهم وتتعلق بالشهوات ويصعب عليهم الشعور بآلام الناس وحاجتهم وفقرهم، لهذا كان الخلفاء الصالحون يعيشون حالة زهد كبيرة لكي تخالط قلوبهم لحظة انكسار تخرج معها جميع مشاعر الغرور التي تدخل على الناس من كثرة متع الدنيا المحيطة به.
وهذا جزء من صفات الخليفة التي تيسر على الناس البحث على الشجرة التي يستظل المسلمون تحت ظلها، وتجمع رايتهم بعد فتنة وتصلح الباب المكسور الذي كسر بموت عمر رضي الله عنه وترفع عنهم الفتن التي خلفها مذهب علماء السلطان الذين أفسدوا على الناس دينهم ودنياهم.

وختاما أقول ما قاله أبو بكر الصديق: "إن المعصوم من عصمه الله، والمفلح من وقاه الله شح نفسه". 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق