باب رد شبه علماء
السلاطين انطلاقا من فهم جديد للحديث النبوي:
أول الأحاديث التي يستدل
بها علماء السلطان حديث العبد الحبشي، وعادة ما يرونه في كتبهم بهذا اللفظ فقط في
سنن الترميذي عَنْ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الغَدَاةِ مَوْعِظَةً
بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، فَقَالَ
رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا
رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى
اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدٌ
حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا،
وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ
فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ
الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ"
وهذا الحديث جاء إثر خطبة
خطبها رسول الله، وكان العرباض بن سارية أحد الذين استمعوا لهذه الخطبة، وروى هذا
علي بن أبي طالب وأم حصين الأحمسية، أما العرباض فقد كان بالشام وكان ممن وقف مع
معاوية ضد علي رضي الله عنه، وأما لفظ أم حصين رضي الله عنها: عن يَحْيَى بْنِ
حُصَيْنٍ، قَالَ: سَمِعْتُ
جَدَّتِي، تُحَدِّثُ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهُوَ يَقُولُ: «وَلَوِ
اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللهِ، فَاسْمَعُوا لَهُ
وَأَطِيعُوا»
فقد اشترط رسول الله أن تكون الطاعة مقرونة
بمدى عمل الأمير بكتاب الله،
وفي لفظ آخر عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: «إِنَّ خَلِيلِي
أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعَ
الْأَطْرَافِ».
والعجيب أن الأحاديث
التي تخص العبد الحبشي جاءت تصف حالة واحدة وهي كون أن العبد الحبشي يستعمل من طرف
ولي وليس هو الولي، فكأنما رسول الله قال: إن تأمر عليكم أحد واستعمل عليكم عبدا
حبشيا فاسمعوا له وأطيعوه ما قادكم هذا العبد بكتاب الله.
وما يدعم شرحي هذا هو
قول علي رضي الله عنه، ففي كتاب حلية الأولياء عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: " قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَئِمَّةُ
مِنْ قُرَيْشٍ، أَبْرَارُهَا أُمَرَاءُ أَبْرَارِهَا، وَفُجَّارُهَا أُمَرَاءُ
فُجَّارِهَا، وَلِكُلٍّ حَقٌّ، فَأْتُوا كُلَّ ذِي حَقٍّ
حَقَّهُ، وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ
حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا - مَا لَمْ يُخَيَّرْ
أَحَدُكُمْ بَيْنَ إِسْلَامِهِ وَبَيْنَ ضَرْبِ عُنُقِهِ - فَإِنْ خُيِّرَ
أَحَدُكُمْ بَيْنَ إِسْلَامِهِ وَبَيْنَ ضَرْبِ عُنُقِهِ فَلْيَمُدَّ عُنُقَهُ -
ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ - فَلَا دُنْيَا لَهُ وَلَا آخِرَةَ بَعْدَ ذَهَابِ
إِسْلَامِهِ"
فرسول الله جعل الإمامة
في قريش وأباح أن تكون الإمارة في غيرهم، فقد فرق بين منصب الإمام ومنصب الأمير،
فالأمير هو كل من استعمله الإمام على فئة من الناس، ومنهم أمير العام ومنهم أمير
الحرب...إلخ، وباختصار فإن لفظ العبد الحبشي خاص بالإمارة وليس الإمامة، وهذا فرق
شاسع بالطبع، فالأمة يجب أن تطيع أوامر أئمتها حتى وإن اقتضت تلك الأوامر أن يكون
العبد الحبشي هو الأمير، وهذا لإخراج مرض التكبر من الناس، فبعض الناس مثلا قد رضيت
بحكم عثمان ولكن لم يرضوا بأمرائه لعدة أسباب، أحدها الكبر والرغبة في الإمارة،
وبعضهم كان على حق فبعض أمراء عثمان كانوا ظلمة ومفسدين، لهذا بدأت بهذا الحديث
لأبين أن هنالك أحكاما تخص الأمراء دون الأئمة، ولهذا أردت أن أقول أن الخلط بين أحاديث
الأمراء وأحاديث الأئمة أدى إلى الفتنة التي قتل فيها عثمان، فلو كان الناس على اطلاع
كبير بالأحاديث وفهموها كما أراد رسول الله أن تصل للناس لفهموا أن الأمراء ليسوا
دوما يمثلون الأئمة، وهذا بالضبط ما حدث مع عثمان، وقتل رضي الله عنه بسبب أعمال
بني أمية التي حرضت الرعية عليه، وهنا رسول الله أمر الناس بالصبر والطاعة ما دام
الإمام يأمر بذلك، ولأن العبد الحبشي كان يمثل ذروة الاحتقار لدى العرب، لهذا ضرب
رسول الله المثل بالعبد الحبشي وهذا الحديث يبين ذلك:
عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:
لَمَّا جَاءَ نَعْيُ النَّجَاشِيِّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «صَلَّوْا عَلَيْهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ،
نُصَلِّي عَلَى عَبْدٍ حَبَشِيٍّ؟
فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ
يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ
خَاشِعِينَ} [آل عمران: 199]
فهذا النجاشي ملك الحبشة واستضاف المسلمين
عنده، وبقيت في العرب فكرة أنه عبد حبشي، فما بالك لو تأمر عليهم عبد حبشي، لقد
أراد رسول الله أن يعلمهم تقبل الأمير مهما كان جنسه إذا كان يعمل بكتاب الله، ولم
يرد رسول الله أن يعلمهم الطاعة العمياء غير المقرونة بكتاب الله، فهذا الحديث
يدين أصحاب المدرسة السلطانية أكثر مما ينفعهم.
الشبهة الثانية:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ}[النساء: 59]
هذه الآية نزلت في أحد أمراء رسول
الله بعثه في سرية كما ذكر ذلك مسلم في باب الإمارة ولكن باختصار وبدون الخوض في
تفاصيل نزول الآية، فإن الآية واضحة جلية قرنت طاعة ولاة الأمور بطاعة الله ورسوله
فقال:" أطِيعُوا اللهَ" أولا ثم أكد "وأطيعوا الرسول"، وعطف
طاعة ولاة الأمور على طاعة رسول الله، لهذا حمل العلماء الآية على أمراء رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
ولو فرضنا أنها نزلت في جميع الولاة فإنها
مسبوقة بطاعة الله وطاعة رسول الله، وهذا لا اختلاف فيه مع الحديث السابق عند قوله:
"ما قادكم بكتاب الله"، وأيضا في الآية بلاغة كبيرة فسبحان الله الذي لم
يترك للذين في قلوبهم زيغ أي حجة، فإن الله قال:" أولي الأمر" وأضاف لها
"منكم"، فلو قال الله أولي الأمر عامة لفهم هذا على كل ولاة الأمور،
ولكن قوله "منكم" خص به نوعا واحدا من الولاة وهم الذين يكونون من صلب
الأمة الإسلامية الذين يخرجون على أمة محمد بقوة السيف والحديد والتغلب بالقوة أهم
من أمة محمد أم هم من الغاشين لها غير الناصحين لها؟ ومن غشنا ليس منا.
الذي يخرج على أمة محمد برها وفاجرها
لا يرحم أحدا يقتل كل من قال هنالك من أحق منك بالخلافة، أهذا منا؟ أنرضى أن نكون
من هؤلاء ورسول الله تبرأ منهم وقال: ليسوا مني، فنحن لسنا منهم وهم ليسوا منا.
عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا
كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، أُعِيذُكَ بِاللَّهِ
مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ، إِنَّهَا سَتَكُونُ أُمَرَاءُ، مَنْ دَخَلَ
عَلَيْهِمْ فَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ
فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَنْ يَرِدَ عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ
يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ
بِكَذِبِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُ، وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ، يَا
كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، الصَّلَاةُ قُرْبَانٌ، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ
تُطْفِئُ الْخَطِيَّةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَالنَّاسُ غَادِيَانِ،
فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقٌ رَقَبَتَهُ، وَمُوبِقُهَا، يَا كَعْبُ بْنَ
عُجْرَةَ، إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ».
والآية التي استدلوا بها
على طاعة الظلمة والمفسدين وقالوا "أولي الأمر منكم"، لقد اتضح أنهم
ليسوا منا وليسوا من رسول الله فأطيعوا من أردتم من سلاطينكم، فلا أنتم من رسول
الله ولا نحن منكم.
الشبهة الثالثة "اصبروا
حتى تلقوني على الحوض":
عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ خَلَا
بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي
كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلَانًا؟ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ
سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ».
وبعد موقعة الحرة قال
أنس بن مالك أن رسول الله قال للأنصار فلم يصبروا،
والحديث بلفظ كامل موجود
في صحيح البخاري:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، قَالَ: لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، قَسَمَ فِي النَّاسِ فِي المُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئًا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ
يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ
الأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ
مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي»
كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ: «مَا
يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
قَالَ: كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ:
" لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ: جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا، أَتَرْضَوْنَ أَنْ
يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ، لَوْلاَ الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً
مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ
الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ
سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً، فَاصْبِرُوا
حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ "
وهذا الحديث
جاء في فضل الأنصار الذين قادوا معركة الحرة ضد يزيد بن معاوية، وملخص تلك القصة أنه
بعد مقتل الحسين رضي الله عنه لم يبق ليزيد أي تقبل لدى الناس وخاصة أهل المدينة،
فأجمعوا على خلعه، فسير لهم الجيوش بقيادة الفاجر مسلمة بن عقبة الفهري، فاجتمع أشراف المدينة وقادوا معركة غير
متكافئة ضد جنود الجبابرة أسفرت عن مقتل آخر بدري ومات من التابعين خلق كثير، وروي
أنه افتض فيها ألف بكر والعياذ بالله، وهذا لأن مسلمة بن عقبة الفهري أحل مدينة
رسول الله ثلاثة أيام كاملة، ولعل الله أرى رسوله بالغيب ما سيحدث لأهل المدينة من
ظلم على يد الحكام، فاختار لهم أن يصبروا حتى يردوا على رسول الله في الحوض، ولكن
أهل المدينة سلكوا وادي النهي عن المنكر.
ومن خلال ما قام به الأنصار في
المدينة نستنتج أن أمر رسول الله لهم هو ترخيص لهم بالصبر وليس واجبا عليهم السكوت
للظلمة، إذ لو كان الصبر على الظلم واجبا لما اجتمعوا على خلع يزيد وقتال جيوشه،
وإنما رخص لهم رسول الله الصبر لأنه كان بايعهم أول الأمر على قول الحق لا يخافون
لومة لائم، ثم رخص لهم في الصبر، وكما سبقت وأشرت فإن الأنصار اختاروا الطريقة الأصعب،
وقالوا الحق وهو أن يزيد بن معاوية غير صالح وقاتلوا جيوشه الظالمة، وفي هذا رد
على من استعمل هذا الحديث لحث الناس على الصبر على سلاطينه، فنقول هؤلاء الأنصار
الحديث ورد فيهم ومع ذلك لم يصبروا فمتى جعلت أنت الصبر واجبا على الرعية؟
والمشكل أن دعاة السلاطين يستدلون
بهذا الحديث على وجوب الصبر عند جور الأئمة، والحديث في كل كتب الحديث وارد في الأنصار،
فهل الأنصار صبروا هذا الصبر الذي تدعون الناس إليه؟
إن ما تدعون إليه الناس ليس صبرا بل
خنوعا وخضوعا، ولو كان هذا هو الصبر الذي عناه رسول الله لما سبقتم أنصار رسول
الله إليه.
الشبهة الرابعة:
سَأَلَ سَلَمَةُ بْنُ
يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا نَبِيَّ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ
يَسْأَلُونَنَا حَقَّهُمْ، وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ:
فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فِي
الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ، فَجَذَبَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ، وَعَلَيْكُمْ مَا
حُمِّلْتُمْ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي
الصَّحِيحِ والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما، وفيه أيضا لفظ آخر في نفس المعنى:
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ تَسُوسُهُمُ
الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا مَاتَ نَبِيٌّ قَامَ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بَعْدِي
نَبِيٌّ»، قَالُوا: فَمَا يَكُونُ بَعْدَكَ؟ قَالَ: «أُمَرَاءُ
وَيَكْثُرُونَ»، قَالُوا: مَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَوْفُوا
بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَأَدُّوا إِلَيْهِمُ الَّذِي لَهُمْ،
فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَنِ الَّذِي لَكُمْ»
وهو حديث يدين أيضا
أصحاب المدرسة السلطانية أكثر مما ينفعهم، فالأمراء يسألون الناس حقهم في البيعة
والسمع والطاعة والجهاد معهم بينما يمنعون الناس حقوقهم المادية؟ !!
فحق الأمير على الناس
البيعة على السمع والطاعة والجهاد، بينما حق الناس على الإمام أن ينصفهم في العطاء
ويكون بمثابة الحامي لهم يستظل الجميع به دون أن يخص بعضهم دون الآخرين.
لكن ماذا عن إمام لم يأخذ
حقه من الناس أي لم يبايعه الناس وإنما نصب نفسه أو نصبته حاشيته ثم خرج على الناس
بقوة السيف وقال أنا إمامكم اسمعوا لي واطيعوني؟ ثم يجبر الناس على بيعته ومن أبى
ذلك قتل كما قتل الحسين بن علي وكما قتل أهل المدينة وكما قتل عبد الله بن الزبير؟
أرسول الله أمرنا بطاعة
أناس هكذا؟ إنما يتذكر أولوا الألباب..
لو تدبرنا قليلا في الحديث
لوجدنا أن الحالة التي أمر رسول الله فيها بالطاعة هي الحالة السليمة للبيعة، حيث
يبايع الناس إماما بالرضى ويعين أمراء، ثم يظلم أمراؤه الناس ويمنعونهم حقوقهم
فأمر رسول الله الناس أن يستمروا معهم في الجهاد والدفاع عن أرض المسلمين بدل
الانشغال بأمور أصغر من ذلك، ولكن إذا كان الأمراء نفسهم يشكلون خطرا على الإسلام
لكثرة فسادهم وشدتهم على الأمة بالسيف مما يدفع الناس إلى الكفر الأصغر الذي هو
القتال الداخلي فالأفضل خلعهم وقتالهم قتالا شديدا إن رفضوا الخروج حتى تستنقذ
الأمة من ويلاتهم وشرورهم.
أما أن يخرج أحد من
العدم نسبا وخلقا وعلما وبلا تاريخ، يخرج بقوة السيف ينصب نفسه إماما ثم يأتي أناس
يقولون إن رسول الله أمر بطاعة المتغلب على الأمصار وبيعته صحيحة !! فلا أدري من أي حديث جاؤوا بهذا الفهم،
فرسول الله قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وهو البيعة بالرضا على السمع والطاعة في
سبيل إقامة الحق وإبطال الباطل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على أن يكون
الإمام قائما على حقوقهم، فإن أخل الأمير بهذا فلا عيب في الصبر عليه ما دام الشرط
الأول متحققا وهو العمل بشرع الله وحماية المسلمين والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر،
فإن زال حق الأمة في
البيعة فهذه حالة أخرى مخالفة تماما ولا يعنيها الحديث المذكور أعلاه، ولكي أختم
سأذكر بقول الفاروق عمر بن الخطاب حين حذر أمة رسول الله ممن يحاولون أن يغتصبوا
حريتها في الاختيار:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنَ المُهَاجِرِينَ، مِنْهُمْ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي مَنْزِلِهِ بِمِنًى، وَهُوَ
عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، إِذْ رَجَعَ إِلَيَّ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا أَتَى أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ
اليَوْمَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، هَلْ لَكَ فِي فُلاَنٍ؟ يَقُولُ:
لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلاَنًا، فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ
بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ، فَغَضِبَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ:
إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ العَشِيَّةَ فِي النَّاسِ، فَمُحَذِّرُهُمْ
هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ.
وفي آخر الخطبة يقول رضي
الله عنه:
ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي
أَنَّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ
فُلاَنًا، فَلاَ يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ
أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً وَتَمَّتْ، أَلاَ وَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ
اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا، وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الأَعْنَاقُ إِلَيْهِ
مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ، مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ
المُسْلِمِينَ فَلاَ يُبَايَعُ هُوَ وَلاَ الَّذِي بَايَعَهُ، تَغِرَّةً أَنْ
يُقْتَلاَ.
صحيح البخاري - باب رجم
الحبلى من الزنا إذا أحصنت-
فما بعد قول الفاروق قول،
إنه في كلام عمر بن الخطاب رد واضح على كلام المدلسين الذين نسبوا الأحاديث إلى
غير موضعها.
إن عمر حذرنا من هؤلاء
الذين أرادوا اغتصاب حقنا في بيعة من نشاء ومن نريد من الأئمة، بينما أمرنا بالصبر
على الإمام الذي أدينا له نحن حق البيعة راضين وعن قناعة، ولكنهم نسبوا الوصية
النبوية إلى غير أهلها فجعلوا لكل طاغية مضلا يستخدم قوة السيف لإرهاب الناس حق
الطاعة والسمع، وهذا أسوء مذاهب الاستعباد التي أظهرت في الأرض الفساد.
أيها المسلم الغافل الذي
تعيش تحت ظل قيودهم تدبر جيدا حديثه صلى الله عليه وسلم أنه يأمرك أن تؤدي حقك
بالبيعة، يأمرك أن تجد الإمام الصالح بعيدا
عن الدنيا، يأمرك أن تكون عنصرا فعالا، وبعدها يأمرك أن تصبر على إمامك حتى وإن
أخطأ في حقك فبعد كل شيء هذا اختيارك.
الشبهة الخامسة "ما
صلوا":
عَنْ ضَبَّةَ بْنِ
مِحْصَنٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ
فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ،
وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟
قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْا» رواه مسلم.
للحديث الذي سقته ألفاظ
مختلفة ويقتصر علماء السلطان على لفظ مسلم لأنه أسهل للتدليس على عقول العوام من
الناس، بينما يهملون الزيادة التي هي في حديث أبي سعيد وكذلك أم سلمة بمسند أبي
يعلى:
عنْ أَبِي سَعِيدٍ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَكُونُ
عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ
تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِمِ الْقُلُوبُ، وَتَلِينُ لَهُمُ الْجُلُودُ، ثُمَّ يَكُونُ
عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ
تَقْشَعِرُّ مِنْهُمُ الْجُلُودُ،
وَتَشْمَئِزُّ مِنْهُمُ الْقُلُوبُ»، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ».
عَنْ ضَبَّةَ بْنِ
مِحْصَنٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ سَيَكُونُ أُمَرَاءُ
تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ
سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»، قَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا مَا صَلُّوا لَكُمُ
الْخَمْسَ»
ومع ذلك فمسلم اقتصر على لفظ صلوا فقط دون إضافة
ما صلوا لكم أو أقاموا لكم الصلاة.
والمشكل في اللفظ هو في
تحديد حالة الأمراء من الناس، مالفرق بين أمير يصلي بالناس وأمير يصلي الصلوات
وحده أو يظهر كل مناسبة مرة وهو يصلي أمام شاشات التلفاز؟
إن اللفظ الحقيقي للحديث
هو ما صلوا لكم الخمس، لكي يبين لنا الحالة الحقيقة التي يجب أن يكون عليها الأمير
مع المسلمين.
فمن هو الأمير؟ هو من
ينوب عن الولي في شؤون المسلمين في منطقة من المناطق، وعلى الأمراء أن يكونوا مقيمين
للصلوات في مساجدهم ومناطقهم التي يقطنونها لكي يكونوا واقفين على مشاكل المسلمين
ومجملين بها وعارفين بأحوال المسلمين باختلافهم، ولا يتوفر هذا إلا بحضور الصلاة
وإقامتها في مساجد المسلمين حيث يجتمع غالبية المسلمين فقراء وأغنياء أقوياء
ومستضعفين، وهذا لما يكون الأمير حاضرا معهم قائما على شؤونهم يسهل عليه التعرف
على أحوالهم والتأثر لهم والرقة والشفقة عليهم.
وبحدوث ذلك الاحتكاك بين
الأمير والناس يشعر الناس بالطمأنينة، وتخرج من قلوبهم الريبة والشك، وهذا الشعور
كفيل بإبعاد شبح الفتنة الداخلية لأن الشك بين الرعية والأمير هو الذي يولد في
النهاية الفتنة الداخلية، لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
إِنَّ الْأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ
فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ "
فإن الناس إذا توجست الشر من الأمير
وعدم الاهتمام وخاصة إن اعتزل الصلوات معهم واستخدم أشخاصا يأتون له بالأخبار
انتشر الشك في أنفس الناس وساءت العلاقة ودبت بعدها الفتنة التي ستكون في نهاية هي
بوابة خراب الدول وزوال ملكها وضياع عيشة الناس وعدم استقامة أمرهم.
ولكن الأمراء إذا تخالطوا يوميا مع
الناس في الصلوات وأقاموها معهم وسمعوا من الناس وسمعهم الناس وحدثت حوارات يومية
ورد الناس عليهم أقوالهم، وكان هنالك جو من عدم التعالي والتكبر لدى الأمير، أحس
الناس بالأمان وذهبت الشكوك، وهذا هو الدواء الفعال للفتنة وليس السيف.
ولعل علماء السلطان أهملوا لفظ كلمة "ما
أقاموا لكم الخمس" لأنها تحمل في طياتها كل تلك المعاني التي شرحتها من قبل،
فإن غابت تلك المعاني فإن الصراع حتمي بين السلطة والشعب، ومهما تعالى صوت الجلاد
فإنه سيكون فتنة وسيكون قتال سواء من الداخل أو من الخارج، فإن الزوال هو المصير
الفعلي لهذه السلطة وزوالها قد يخلف مشاكل كبرى، لهذا حدد رسول الله الحد الفاصل
بين الأمراء الذين لا يحق قتالهم والذين يمكن أن يقاتلوا، فالأمراء الذين يشاركون
المسلمين صلاتهم رغم أخطائهم واعوجاج أمرهم فسيبقون جزءا من أمتهم، وسيأتي اليوم
الذي تصحو فيه ضمائرهم وتعود لجادة الصواب، وهذا لأن كثرة مخالطة المسلمين في
المساجد ستولد في يوم من الأيام صحوة كبيرة داخل قلوبهم، وهي وحدها كفيلة بإعادتهم
وتقويم حالهم، ولمن أراد أن يفهم هذه الحالة الإنسانية عليه أن يقرأ قوله تعالى: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ
عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا
قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا"
فكثرة مخالطة الفقراء
والمساكين في المساجد يوميا في الصلوات ستؤدي إلى رقة القلب ونمو الإحساس الإنساني
لدى الأمير، حتى وإن كان في البداية مجبرا على مخالطتهم غير راضٍ، لكن سرعان ما
يتعلم الصبر ثم عندما يتعلم كيف يصبر سرعان ما يتعود عليهم، ثم سرعان يصل إلى درجة
فهمهم والتواصل معهم بالرغم ما فيهم من منكرات لا يتقبلها الناس، سوف تجعله هذه
المخالطة ينتبه لعيوبه ويسعى لتصحيحها دون أن تضطر الرعية إلى استخدام القوة
والصراع، فصبر العوام ليس كصبر غيرهم،
ولكن ماذا لو أغلق الأمير
بابه وصار لا يصلي مع المسلمين إلا في الأعياد والمناسبات في الصفوف الأولى وتحت
حراسة مشددة، أليس هذا مدعاة للشك والريبة، وأليس هذا هو الذي يدعو الناس للنفور
من أمرائها؟ هذا النفور سيتطور إلى لعن ثم إذا اشتد الأمر أدى لمواجهة حتمية تزهق فيه
الكثير من الأرواح، ويستغلها الأعداء للمكر بالمسلمين، وهذا الذي يفسر دوما دعم
الحكام الفاسدين من طرف أعداء الإسلام، لأنهم يدركون أن الداء المميت لكل أمة هو
أمراء فسقة وحكام تسبب سياستهم غير العادلة التي تقصي الناس الفوضى والمشاكل حتى
تندلع الحروب والفتن الداخلية، وما على الأعداء إلا الوقوف مع الظلمة حتى يصبوا
الزيت على النار، فإن انتصرت الشعوب تظاهروا لها بالود حتى يحضروا لخديعة أخرى،
وإن انتصر الظلمة جعلوا منهم عبدة لهم لما دعموهم من قبلن، وهذه هي الحالة التي
نعيشها اليوم، حالة لا تستقر معها النفس ولا يهدأ القلب لما يراه من فساد كبير
وتربص الأعداء بأمتنا الفتية.
ولا أملك في ختام هذا الرد إلا أن أقول
للحكام الذي يخالفون سنة رسول الله في الحكم وهم في أعلى الرتب من السلطة قوله
سبحانه وتعالى:" فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "
الرد على الشبهة السابعة "وإن ضرب ظهرك وأخذ
مالك":
قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ
الْيَمَانِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا بِشَرٍّ، فَجَاءَ اللهُ
بِخَيْرٍ، فَنَحْنُ فِيهِ، فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ:
«نَعَمْ»، قُلْتُ: هَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الشَّرِّ خَيْرٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ:
فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: كَيْفَ؟ قَالَ:
«يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ
لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ
رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي
جُثْمَانِ إِنْسٍ»، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ
أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ
ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ، فَاسْمَعْ وَأَطِعْ»
واللفظ الكامل للحديث هو
برواية مسلم والبخاري.
حَدَّثَنِي أَبُو
إِدْرِيسَ الخَوْلاَنِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ يَقُولُ:
كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ
الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي،
فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا
كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الخَيْرِ، فَهَلْ
بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ»
قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَفِيهِ
دَخَنٌ» قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي،
تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ» قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟
قَالَ: «نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا
قَذَفُوهُ فِيهَا» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقَالَ: «هُمْ
مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا» قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي
إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ،
قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ «فَاعْتَزِلْ
تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى
يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ»
وباختصار إن جمعنا بين
الحديثين لوجدنا أنهما حديث واحد يصف حال المسلمين بعد الخلافة الراشدة، ويصف حالة
سيئة جدا يظهر فيها أئمة سوء لا يهتدون بهدي رسول الله ولا يقتدون بسنته معهم رجال
بقلوب شياطين، وكأنه يصف حال بعض الحكام الذين نعرفهم، ثم قال حذيفة متحيرا: ماذا
أفعل يا رسول الله؟ فدله رسول الله على الخير وهو أن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم
حتى وإن أخطأ الإمام في حقك كالضرب وأخذ من مالك لأنه زمن فتنة، ويوجد أئمة شر
يتربصون بالإسلام، فالمطالب الشخصية ليست مهمة مقابل المصلحة العامة للأمة
الإسلامية التي يقودها إمام تحت الضغوط الخارجية والداخلية قد يتصرف تصرفات خاطئة
وغير صحيحة،
وكمثال على هذا ما فعله
سيدنا عمر رضي الله بخالد بن الوليد رضي الله عنهم جميعا، فلقد أخطأ سيدنا عمر في
حق سيف الله ومع ذلك فإن خالد رضي الله عنه سكت وصبر على أمير المؤمنين، لأن هذا
يصب في مصلحة الإسلام، وضرب لنا مثالا رائعا عن الصبر في سبيل الله والاحتساب عند
الله.
ولكن يبقى السؤال قائما:
ماذا لو لم يتوفر إمام للمسلمين ولم تكن لهم جماعة يقيمون حقا حدود الله ولا يقتلون
النفس التي حرم الله؟
إن رسول الله أمر حذيفة
بالاعتزال بعيدا عن كل تلك الفرق.. فمن هي تلك الفرق؟ تلك الفرق الذي وصفها فيها أئمة
لا يهتدون بهدي رسول الله ولا يعملون بسنته ولا يقتدون به صلى الله عليه وسلم.
سبحان الله رسول الله
يأمر حذيفة أن يعتزل هؤلاء الحكام الظلمة الذين لا يقتدون بهدي رسول الله ولا سنته،
ثم يأمرنا هؤلاء أن نطيعهم ونعطيهم ظهورنا ليركبوا عليها،
إما إن قال ما معنى أمير
المسلمين وجماعتهم فنقول أن المسلمين إذا بايعوا أميرا بايعوه على العمل بكتاب
الله وسنة ورسول الله، أما أمراؤكم فيأمرون بالظلم من القول والعمل وأكل السحت
والربا وموالاة الكفار والعمل معهم على التضييق على المسلمين، ولو تدبرت قليلا
لوجدت أن هؤلاء الحكام لا يصلح لهم لا طاعة ولا سمع، وإنما يصلح اعتزالهم واعتزال
جيوشهم ومساجدهم ومنابرهم وكل ما يرمز لهم، لأنهم فئة اختارت أن تقتدي بغير رسول
الله وابتغت سنة غير سنته، وبعضهم ابتغى دينا غير دينه.
فالحديث الذي استدلوا به
على طاعة حاكمهم هذه المرة يدينهم إدانة واضحة، فالحديث يبين لحذيفة حالة المسلمين
في أزمنة متعددة، حيث يتعرض الإسلام إلى محاربة من طرف حكام لا يهتدون بسنة رسول
الله ولا يقتدون به معهم رجال بقلوب شياطين يقدمون على فعل كل شيء قبيح، فإذا كان
للمسلمين قائد يمشي بهم بسنة رسول الله ويحاول أن يهتدي بهديه فيجب التمسك به حتى
وإن كان من هذا القائد أخطاء، فهو في النهاية بشري معرض للغضب والنسيان.
وبهذا نكون قد بينا كيف
دلس علماء السلطان على الناس انطلاقا من أفكار لا أصل لها باستخدام ألفاظ مبعثرة
من أحاديث يبترون أجزاء منها متعمدين إخفاء الحقيقة عن عقول الناس، وإذا خالفت
أهواءهم بعض الأحاديث أنكروها ولو كانت أسانيدها صحيحة، وهذا أسوأ ما يكون عليه
الإنسان في دينه، وإن الله قال:" أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا
خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ
الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ
الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ "
نعم لقد اشترى هؤلاء السلم
في الحياة الدنيا مقابل الاخرة ،
إنها التجارة الكاسدة
التي ابتليت بها الأمة في هذا الزمن، وأدت إلى نهايتها
في أسفل السافلين، وإن
الأئمة الكبار والصالحين من بني هاشم وغيرهم أدركوا خطورة تفشي سموم علماء السلطان
في الناس فقاموا بثورات كثيرة ضد أئمة جائرين وسلاطين ظالمين، انطلاقا من سيد شباب
الجنة الإمام الحسين رضي الله عنه، فهؤلاء كانوا يمشون على بينة من أحاديث مبنية
على أساس أن الإمام عندهم هو كل من عقدت له البيعة بالرضى والشورى على العمل بالحق،
وما عدى ذلك فهم ليسوا معنيين لا بطاعة ولا بعهد ولا ذمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق