الأحاديث الواردة في ذم علماء السلطان والنهي عن مخالطة السلطان والحث على اعتزالهم

الكثير من الأحاديث النبوية حثت على العموم على اجتناب أبواب السلاطين وبالتأكيد المقصود هنا بالسلاطين من لم يكن على هدي رسول الله ولا سنته، ومنهم اليوم كثير وهنالك أحاديث بينت نوع الاعتزال:
- عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدا فقد جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلاطين افتتن، وما ازداد عبد من السلطان دنوا إلا ازداد من الله بعدا) -البيهقي بسند صحيح وقد حسنه الألباني في الصحيحة- *جفا يعني قسا وصار غليظ القلب.
- وعند الطبراني في المعجم الأوسط عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي سَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ، يَأْتِيهِمُ الشَّيْطَانُ يَقُولُ: لَوْ مَا أَتَيْتُمُ الْمُلُوكَ فَأَصْبَتُمْ مِنْ دُنْيَاهُمْ، فَاعْتَزَلْتُمُوهُمْ بِدِينِكُمْ ألَّا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنَ الْقَتَادِ إِلَّا الشَّوْكَ، كَذَلِكَ لَا يُجْتَنَى مِنْ قُرْبِهِمْ إِلَّا الْخَطَايَا». رواه الوليد بن مسلم بدون سند في الطبراني تحت رقم 8236  وهو بالسند عند ابن ماجة وابن أبي بردة مقبول إن شاء الله، فالحديث حسن وليس ضعيفا كما رأيت عند بعض المحققين.
وأيضا الحديث السابق مشهور من حديث كعب بن عجرة:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ:" أَعَاذَكَ اللهُ يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ "، قَالَ: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟ قَالَ:" أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي لَا يَهْدُونَ بِهِدَايَتِي، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ وَلَا يَرِدُونَ عَلَى حَوْضِي، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ عَلَى كَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ وَيَرِدُونَ عَلَى حَوْضِي. يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَالصَّلَاةُ قُرْبَانٌ، - أَوْ قَالَ: بُرْهَانٌ -. يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ أَبَدًا، النَّارُ أَوْلَى بِهِ. يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، النَّاسُ غَادِيَانِ: فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، أَوْ بَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا ".
وأيضا عن أبي الأعور السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إياكم وأبواب السلطان" - البيهقي في شعب الإيمان-
أما ما ورد من آثار أصحاب رسول الله في النهي عن مخالطة السلطان ما أورده البيهقي في باب مجانبة الظلمة تحت رقم 8962 عنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:" اتَّقُوا أَبْوَابَ السُّلْطَانِ"
وعن عبد الله بن مسعود قال:" إِنَّ عَلَى أَبْوَابِ السُّلْطَانِ فِتَنًا كَمَبَارِكِ الْإِبِلِ لَا تُصِيبُوا مِنْ دُنْيَاهُمْ شَيْئًا، إِلَّا أَصَابُوا مِنْ دِينِكُمْ مِثْلَهُ "- نفس المصدر-
عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ:" إِيَّاكُمْ وَمَوَاقِفَ الْفِتَنِ " قِيلَ: وَمَا مَوَاقِفُ الْفِتَنِ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟ قَالَ: " أَبْوَابُ الْأُمَرَاءِ يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَى الْأَمِيرِ فَيُصَدِّقُهُ بِالْكَذِبِ وَيَقُولُ مَا لَيْسَ فِيهِ ".
أما من سلف هذه الأمة فقد روى ابن نعيم في الحلية قال: قال جعفر بن محمد الصادق: «الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْفُقَهَاءَ قَدْ رَكِبُوا إِلَى السَّلَاطِينِ فَاتَّهِمُوهُمْ» في باب جعفر بن محمد ج 4 ص 194.
وكي لا ننسى من  الأئمة الاثني عشرية من أولاد الحسين كلهم لم يرضوا مخالطة الحكام والسلاطين وما دخلوا عليهم إلا ما كان من الرضا الذي كان يدخل على المأمون يعظه ويذكره، وقد قتلوا كلهم على يد السلطان.
أما من عرف من علماء السنة بعدم مخالطته السلطان فهو الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله، عن الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ، يَقُولُ: «لِأَنْ يَدْنُوَ الرَّجُلُ مِنْ جِيفَةٍ مُنْتِنَةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَدْنُوَ إِلَى هَؤُلَاءِ يَعْنِي السُّلْطَانَ».
وقال أيضا: «رَجُلٌ لَا يُخَالِطُ هَؤُلَاءِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى الْمَكْتُوبَةِ أَفْضَلُ عِنْدَنَا مِنْ رَجُلٍ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ النَّهَارَ وَيَحُجُّ وَيَعْتَمِرُ وَيُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَيُخَالِطُهُمْ» الحلية لنعيم بن حماد راجع باب الفضيل بن عياض.
ولعل كرهه للسلاطين جاء من عقيدة الإيمان الراسخة في قلبه، فقد قال كلمة تبين أنه رجل يعرف حقا جوهر الإيمان فقال: «إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللهِ أَنْ أَشْبَعَ حَتَّى أَرَى الْعَدْلَ قَدْ بُسِطَ وَأَرَى الْحَقَّ قَدْ قَامَ».
وأيضا الإمام سفيان الثوري رحمه الله الذي كانت مواقفه بينة مع السلطان وكان شديدا عليهم، وقد مات رحمه الله هاربا من السلطان مستخفيا منه.
ومن آثاره في الحلية عن سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، يَقُولُ: قَالَ لِيَ الْمَهْدِيُّ: أَبَا عَبْدِ اللهِ، اصْحَبْنِي حَتَّى أَسِيرَ فِيكُمْ سِيرَةَ الْعُمَرَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ: أَمَّا وَهَؤُلَاءِ جُلَسَاؤُكَ فَلَا، قَالَ: فَإِنَّكَ تَكْتُبُ إِلَيْنَا فِي حَوَائِجَكَ فَنَقْضِيهَا قَالَ سُفْيَانُ: وَاللهِ مَا كَتَبْتُ إِلَيْكَ كِتَابًا قَطُّ.
وأمر له هارون الرشيد بعشرة آلاف درهم فلم يقبلها، فإن غالبية علماء السلف كانوا لا يستحلون أموال السلاطين.
وكان  سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، يَقُولُ: أَئِمَّةُ الْعَدْلِ خَمْسَةٌ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَقَدِ اعْتَدَى.
- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَحْمُودٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْكَرَابِيسِيُّ، ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ يُوسُفَ بْنَ أَسْبَاطٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتَ الْقَارِئَ يَلُوذُ بِبَابِ السُّلْطَانِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لِصٌّ، فَإِذَا رَأَيْتَهُ يَلُوذُ بِبَابِ الْأَغْنِيَاءِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مُرَاءٍ.
وعنه أيضا، يَقُولُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ فِي الْعَبْدِ حَاجَةٌ نَبَذَهُ إِلَيْهِمْ يَعْنِي السُّلْطَانَ.

وكل هذا في الحلية.
وأيضا منهم الإمام محمد بنو واسع فعن جَعْفَرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ، يَقُولُ: "إِنَّ مِنَ الْقُرَّاءِ قُرَّاءً ذَا الْوَجْهَيْنِ إِذَا لَقُوا الْمُلُوكَ دَخَلُوا مَعَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ وَإِذَا لَقُوا أَهْلَ الْآخِرَةِ دَخَلُوا مَعَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ فَكُونُوا مِنْ قُرَّاءِ الرَّحْمَنِ وَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ وَاسِعٍ مِنْ قُرَّاءِ الرَّحْمَن".
كلام مالك بن دينار تلخيص لكل الكلام، فهذا هو الصراع القائم منذ الأزل، صراع بين أولياء السلطان وأولياء القرآن، وقد كان محمد بن واسع ممثلا لحزب القرآن.
وعنه أيضا، قَالَ: «لَقَضْمُ الْقَصَبِ وَسَفُّ التُّرَابِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنُوِّ مِنَ السُّلْطَانِ».
وعن سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ وَاسِعٍ، أُرِيدَ عَلَى الْقَضَاءِ فَأَبَى فَعَاتَبَتْهُ امْرَأَتُهُ فَقَالَتْ: لَكَ عِيَالٌ وَأَنْتَ مُحْتَاجٌ قَالَ: «مَا دُمْتِ تَرَيْنِي أَصْبِرُ عَلَى الْخَلِّ وَالْبَقْلِ فَلَا تَطْمَعِي فِي هَذَا مِنِّي». وسند الأثر صحيح.
وبسند صحيح أيضا في الحلية روى عن عبد الله بن شوذب قال: قَسَمَ أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْبَصْرَةِ عَلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَبَعَثَ إِلَى مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ فَقَبِلَ وَأَبَى مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ فَقَالَ: «يَا مَالِكُ قَبِلْتَ جَوَائِزَ السُّلْطَانِ؟» قَالَ: فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ سَلْ جُلَسَائِي، فَقَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ اشْتَرى بِهَا رِقَابًا فَأَعْتَقَهُمْ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ: «أَنْشُدُكَ اللهَ أَقَلْبُكَ السَّاعَةَ لَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُجِيزَكَ؟» قَالَ: اللهُمَّ لَا، قَالَ: " تَرَى: أَيُّ شَيْءٍ دَخَلَ عَلَيْكَ؟ " فَقَالَ مَالِكٌ لِجُلَسَائِهِ: إِنَّمَا مَالِكٌ حِمَارٌ إِنَّمَا يَعْبُدُ اللهَ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ.
فسبحان الله مالك بن دينار يشهد على نفسه بهذا الكلام ويتعظ من تصرف محمد بن واسع الذي جاءته الأموال لبيته ولم يقبل، سبحان الله هذا مثال عن الإسلام الحقيقي، تأتيه أموال السلاطين من غير مسألة، واحد يتصدق بها وأخر لا يقبلها تماما وخيرهما من لم يقبل تماما، لم؟ وأين الحكمة من تصرف بن واسع رحمه الله؟

هناك تعليق واحد: