وتتم هذه المرحلة بيد السلطان الذي يمارس على بلاطه سياسة الترغيب، ويمارس
على معارضيه سياسة الترهيب، حتى يأخذهم لحد تخويف الناس من حضور مجالسهم لما يسبب
ذلك من متابعات قانونية وعقوبات كثيرة، ويصل الأمر إلى حد قتل الصالحين من الناس
والذين يبحثون عن الحق والعدل حتى يمثل بجثثهم، وتقطع رؤوسهم وتحمل الى الأمراء
والملوك ويؤمر ليطاف برؤوسهم ليخيفوا الناس ويرعبوهم ويبثوا الكراهية في الناس،
ليحكموا سيطرتهم على المجتمع باستعمال بشر أشبه بالكلاب من البشر، ولقد حدث مع
الحسين وأحفاده وأبناء الحسن وأحفاده رضي الله عنهم أجمعين فقد كانوا الفئة التي
قال فيها الله أنهم يأمرون بالقسط من الناس، وتوعد قاتليهم وقال: " وَيَقْتُلُونَ
الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ".
وكان هذا حال الملوك دوما فهم يأمرون بقتل الصالحين والتمثيل بهم من أجل
ذنب واحد وهو أنهم طالبوا بحقهم وبحق غيرهم في القسط المبين الذي يعطي كل ذي حقه
ومستحقه، ومنه فإن سلطة الملك وأعوانه تزول بهذه الدعوة والمطالبة، فيكبر ذلك في
نفس الملوك التي تحس بأن عروشها سوف تهز بثورة علمية تحمل الناس على تغيرهم
واستبدالهم، وهذا بالضبط ما تخشاه الملوك في الدعوة الإسلامية الحقيقية التي تقرع
طبول العدل والقسط، وتنذر الملوك بالحرب القادمة التي ستخلعهم من عروشهم التي
استعبدوا الناس بها، لا جرم أن هذا ما تخشاه الملوك وتكرهه في الإسلام فهو الدعوة
التي تنفس كل ما وضعه أسياد الجاهلية من قيود على البشر، ولإدراكهم الجازم بحتمية
زوال ملكهم وخراب نظامهم إذا حكم الإسلام، فإنهم يسعون جاهدين لمحاربة الإسلام، فإن
لم يستطيعوا انحنوا للعاصفة وحاولوا التحايل عليها، فينشرون مذاهب التأويل الباطل
والتحريف من أجل أن يضمن ملكهم وسيطرتهم على الناس، فإن لم تسلم لهم هذه أخذوا
الصالحين بالقوة والجبروت وبالتعذيب والسجن والقتل حتى يردعوهم بالقوة عن قول
الحقيقة التي تؤذيهم ولا يريدون للناس أن يسمعوها.
ولقد مارس بنو أمية هذه السياسة وبعدهم بنو العباس، وكانت أئمة الناس في
هذا والذين يتصدون لهم أهل بيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وكانوا جيلا بعد جيل يمضون في هذه الطريق فوقفوا ضد بني
أمية وتجبرهم، ومات منهم خلق كثير، ووقفوا لبني العباس ومات منهم خلق أكثر.
ولا يمكن القول الآن إلا أعظم الشهداء عند الله هو من يقوم ضد هؤلاء الحكام
وأشياعهم من القراء، فيكون كما قال رسول الله:" سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب
أو رجل قام إلى ذي سلطان فأمره ونهاه فقتله"،
ولهذا فإن
الرجل الذي ينهى السلطان الظالم لا بد له من أصول يمشي بها أودعها الله فيه لتكون
علامته الفاصلة بين الحق والباطل وهي الأصول التي حاربت تعطيل العقول، الأصول
التي حثت الناس على التحرر من التبعية العمياء،
الفطرة السليمة لقوله تعالى:" وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ "
وفي هذا برهان كبير
على القول بأن الفطرة السليمة تعرف الحق والباطل والشر والخير، وأنها موجودة بقلب
وعقل كل إنسان، وإنما ينكرها من كفر بها وجحد نعمتها، ولهذا فإن فطرة الناس
الإسلام لله والإيمان برسله وإنكار المحدثات والباطل، فتكون كل سبل الخير والشر
واضحة للناس عند نشأته،م فيعرف الخير ويحبه ويكره الشر وينكره، ومحل الإدراك في
هذا كله العقل، ومحل الاستجابة في هذا كله القلب، فالعقل يدرك الخير والشر والحق
والباطل، والقلب يهوى هذا أو ذلك، والعقل لا تفسده الشهوات والماديات وإنما تفسد
القلب، فنظم العقل دوما مستقيمة بينما القلب يخضع للعواطف الممزوجة بالغرائز
الجسدية، فإن استجاب لها بإفراط أفسد القلب، والقلب أقوى في توجيه الإنسان من
العقل فالقلب يأمر والعقل يدرك ويدبر، ولهذا فالقلب هو المضغة التي بها الصلاح أو
الفساد
أما الإدراك فيكون
بالعقل، فالعقل هو الذي يفرق بين الخالق والمخلوق والحق والباطل وبين النبي
والدجال وبين الكذاب والصادق وبين المعجزة والسحر، وهكذا دأب العقل في تمييز
الباطل وصفته وعلله والحق وصفته وعلله، وفي العقل أصوله التجريدية الموجودة بها
مسبقا وهي ما يسمى الفطرة، ومن أصول العقل
يستحيل أن يكون الشيء عدلا وظلما في نفس الوقت وفي نفس المكان، وبهذا يميز
الإنسان الباطل والحق، وهذه الأصول هي ما عناه الله بقوله:" وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ" أي السبيلين
سبيل الحق وسبيل الباطل، ولولا هذه القواعد البسيطة الموجودة في كل عاقل كان من
المستحيل أن يفرق بين حق وباطل، ولكن الله سبحانه لا يظلم عبيده فقد بين
لهم السبل كلها ووضع لهم طرق الخير والشر منها وما على الإنسان إلا أن يرى بنفسه وبفطرته
البسيطة التي أودعها الله فيه سبيل الحق وسبيل الباطل فكما هذه القواعد تساعدنا في
التمييز فهي تساعدنا في تفسير أصول الحياة وأهدافها.
واهم قاعدة في هذا
هي أنه ما من شيء إلا بسبب جاء به للحياة، وليس في الحياة عبثا بل جاء لسبب فيستحيل أن توجد الأشياء في الأنظمة عبثا أو
توجد أنفسها من العدم،
فالعدم لا يخلق
كونا ولا الكون جاء للعدم÷ وهذه قاعدة ثابتة في عقل الإنسان،
ومن القواعد
الفرعية في الإنسان التساؤل عن ماهية الخلق وهدفهم وكيفية الوصول للأهداف بأمان
وهذه أيضا طريق أخرى للتفكير السليم.
ولعل من أجمل القصص
في هذا قصة حي بن يقظان التي ركز كاتبها على أن الإنسان في فطرته يبحث عن سر خلقه
وعن خالقه وماله من خالقه وما عليه من خالقه.
ومن القواعد
الفرعية عن التساؤل هي قاعدة الإحساس بالعجز فعند التساؤل حول الخلق فان الإنسان
يجد نفسه عاجزا عن الإجابة الكاملة حول الكيفية والهدف كله، لكنه يدرك أن الخلق ليس بالشيء الهين فهو عاجز تماما
أن يخلق شيئا من العدم وكل ما يفعله عبر مرور القرون هو تسخير الموجود وتحريكه.
وهذا العجز يجعل
الإنسان يبحث عن مخلص ومنقذ فيرسل الله برحمته رسلا ليعلموا الإنسان ويعرفوه بنفسه
ودروه ومصيره ولكن ما يضمن صدق هؤلاء،
عندها يحتاج الإنسان
لشيء من صلب المعجزة التي لا يطيقها البشر وبهذا تكتمل الأصول العقلية المقيمة
للدين بعد أن يدرك الإنسان عجزه عن مجارات القدرات الإلهية وبهذا تكتمل حجة الله
على الناس اكتمالا تاما.
ولو كانت هذه
الأصول ملخصة جدا فإنها تبين نوعا ما النسق العقلي للإنسان الذي يضمن له استقرار
العقل واتزان التفكير واطمئنان القلب الذي هو دوما الأمير الشكاك، لأنه موطن الفزع
والخوف والفرح والشوق والطمع والحب والكراهية، واحتماله لكل هذه المشاعر يجعله سيد
العقل والجوارح.
ولهذا فقد أورد
الله لنا قصة إبراهيم عليه السلام وهو يستعمل عقله بأصوله البسيطة لإدراك الحقيقة،
قال تعالى:" وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ
بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ
إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ
سَعْيًا".
وفي هذه الآية دليل
قطعي على أن القلب ليس مركز الإدراك بل هو مركز الإحساس، فقوله تعالى:" أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى" فهو أقر بإيمانه
عقليا، فلا مفر عقلي من وجود الله أبدا،
وإنما يبقى دوما
هنالك تساؤل حول الكيفية، يعقبه شك مركزه القلب فقال ليطمئن قلبي أي تهدا تلك
الشكوك الناتجة عن الخوف الموجود بالقلب قهريا والتي تتوقف بمشاهدة الإعجاز
المادي بامر الله.وبهذا فان الشكوك التي كانت
تراود إبراهيم قهريا لا إراديا كانت ناتجة عن ضعف الإدراك لدى الإنسان عامة فلهذا
لقد وصف الله الانسان وقال كان جهولا وقال ظلوما .وفي ابراهيم عليه السلام مثال
بسيط لكامل البشر ليدركوا ادراكا جازما انهم دوما سيتعرضون لنفس الشك الذي تعرض له
ابراهيم وهو احسن منهم ايمانا فلا يرتبكوا ابدا عند حدوث هذا النوع من العجز
القلبي عن طرد الشكوك فهي فطرية ناتجة عن
عدم قدرة الإنسان عن الإدراك الكامل للحقيقة، ووفق هذا النقص الذي هو في حده إثبات
لشيء آخر، فإننا نقول أن الإنسان مخلوق عاجز يحتاج إلى إله مدبر، وهذه هي الحكمة
من عجز الإنسان عن الإدراك، فكلما أحس الإنسان بشك أو ارتياب لجأ إلى من يظن أنه
قادر على فصل الخطاب وهو الله، وهنا لله شؤون في الناس، فمنهم من يمنحه الفرصة
ليرى من المعجزات المادية ما يزيل به الشك، ومنهم من لا يرى تلك المعجزات، وحتى لو رآها فإن ميوله
المادية تجعله في سكرة لا يفيق منها فلا يحصل له الإيمان أبدا.
ولقد كان إبراهيم
عليه السلام أكثر الأنبياء تحججا بالفطرة والعقل السليم، فلم يحاجج قومه بالمعجزات
وإنما بالبراهين العقلية السليمة، فتارة يحطم الأصنام وتارة يسفه عبادة الكواكب
وتارة يجادل الجبارين والمتكبرين ويعجزهم، وهذا فقط باستعمال عقله بأصوله السليمة
الخالية من التشويه.
وعلى هذا الأساس
أقول إن الفطرة السليمة تبقى سليمة ما لم يحرفها الإنسان بإدخال الرغبات الغرائزية
والعواطف المكتسبة من المحيط أو الظروف الاجتماعية، ولهذا فإن الفطرة السليمة تبقى
في صاحبها مهما حاول كبتها، وستبقى حجة عليه يوم القيامة إذا سمع بالحق وفقه وعرف
أنه ما يوافق العقل لكن خالفه، فلا يقتضي الإيمان دوما المعجزات، ولهذا فكل من
تصله معجزة مادية حسية عن الله ولكن وصله الحق المبين الموافق للعقل السليم
والفطرة التي عليه فقد أقيمت عليه الحجة ولا سبيل له للتعذر، وما قوم إبراهيم
ببعيد فقد كانت كل دعوة إبراهيم عقلية محضة خالية من الإعجاز المادي، فقد جرد عقله
كله لضرب مذاهبهم وإثبات بطلانها وبطلان تشريعاته كلها، وكان آخر شيء لهم هو أن
أراهم الله قدرته في حماية عبده من الناس لتتم بذلك عليه الحجة عامة وبهرهم
إبراهيم عليه السلام بذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق