
" قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"
كل إنسان يملك حق
معرفة ما هو ولم هو هنا ولماذا هنا على سطح هذه الكواكب المليء بالحركة.
فكما قلت فالتساؤل
موجود في فطرتنا سلفا ولابد منه لاكتمال النسق العقلي للإنسان، وبما أن الفطرة
موجودة بالإنسان وهو يدرك جازما حتمية مسؤوليته عن قراراته، فهو سيبحث عن الحقيقة
التي تضمن له السلامة الكاملة، والله الذي أوجد
فيه هذه النزعة وكما سبق وأن ذكرت، فالعقل السليم وحده قادر على إثبات
وحدانية الله وعظمته عن طريق التفكر والتدبر، حتى وإن لم يدرك العقل الصفة السليمة
لعبادة الله فإنه يدرك أنه لا شك في أنه معبود عظيم لقدرته، لكنه بمخالطة السفليات
يحتاج إلى أساليب أخرى غير الأساليب العقلية الفطرية لإثبات هذا، هذه الأساليب
الجديدة في إثبات وحدانية الله هي إرسال الرسل ليعلموا الناس ويزكوهم ويخرجوهم من
الظلمات إلى النور، والرسل يبعثون من الله من جنس البشر ليقتدى بهم جزاءا وفاقا،
فليس من العدل أن يكون الرسول غير بشري لديه ما ليس لدى البشر وليس عليه ما على
البشر، فالحكمة الكاملة والرحمة العادلة اقتضت أن يكون الرسول من جنس المرسل إليه
لتقوم به الحجة الكاملة وتكون به الأسوة المثالية.
ولكن الإنسان يحمل
الشك في طبعه، وهو غير مستعد للتسليم بأي خبر يسمعه من أي شخص، حتى وإن كان في ذلك
الشخص صدق معهود، فكل ما يتعلق عند البشر بالإيمان يكون التصديق به صعبا إذا كان
جديدا ويكون التخلي عنه صعبا إذا كان قديما.
فالأنبياء يأتون
بالجديد صعب التصديق لينسفوا به القديم صعب النسيان.
ولهذا فالله يقدم
المعجزة للبشر من جنس الأشياء التي لا يستطيعون تكذيبها لكي يقيم عليهم الحجة،
والحجة هي ما يثبت صدق الرسالة ولا تستطيع العقول تكذيبه، واختلفت معجزة الأنبياء
باختلاف العلوم الموجودة بالأقوام، وهذا ايضا من تمام الحكمة والإدراك، فلو فرضنا أن شخصا ما قدم معجزة كبيرة لقوم لا
يفهمون ولا يدركون طبيعتها فمن الصعب عليهم التصديق بها أصلا ما داموا لا يفهمون
جوهر المعجزة فيها.
لهذا كانت الحكمة
أن تكون المعجزة تحمل لغة أهلها وحرفتهم ومزاجهم فيفهم المعجزة فيها الصغير
والكبير والعالم والجاهل منهم.
ولقد جعلت في كل
قوم معجزتهم وجعل القرآن معجزة المسلمين بحد ذاته، المعجزة فيه ثابتة ولا تزول
بزوال الخبر عنها، فلقد كان الإعجاز البياني للقرآن مصاحبا له منذ نزوله، لكن
بفقدان الحس اللغوي عند العرب لم يعد من سبيل الحكمة أن نقول أنه المعجزة الأساسية
التي نثبت بها القرآن لجيل جديد من عديمي الإحساس اللغوي، فلكل جيل لغته التي
يفهمها ويعجز عندها، ولكل قوم حرفتهم التي يتميزون بها دون غيرهم ولهم العلم الكثير
بها، وتكون المعجزة من أصلها ليتم بها العلم الكبير لكل الناس.
ومعجزة اليوم في
القرآن هي إشارات علمية بسيطة لا تذهب بالنسق البياني للقرآن بحيث تجعله كتابا
علميا فقط، بل هي إشارات صغيرة على ظواهر
لم تبرهن على صحتها إلا عن طريق معدات مادية تم تسخيرها في عصرنا هذا بعد الثورة
الصناعية، بحيث يبقى الإنسان العالم عاجزا عن تقديم تفسير لها إلا أنها آيات منزلة
من الله، فالعصر الذي أنزل فيه القرآن لم يصل أهله إلى حد يمكنهم من معرفة خبايا
الظواهر الطبيعية.
وتختلف البراهين من
شخص إلى شخص ومن مستوى إلى مستوى ومن زمن إلى زمن ومن ظرف إلى ظرف فما كان يبدو مقنعا
اليوم يبدو غير مقنع غدا، وهذا بسبب تغير حجم المعطيات وكمها فكلما زادت معلوماتك
دون تدبر شخصي منك كنت أداة غيرك في التفكير، وكلما زادت معلوماتك طردا مع تزايد
قدرتك في التدبر كانت المعلومات أداة لك، ولهذا فالبحث عن البراهين للقضايا
الإيمانية يجب أن لا يقتصر على جهد مجال واحد بل يجب أن يكون مشتملا على كل ما يمكن أن يكون له علاقة بالتفكير البشري
السليم، فالرسالات إعجازها قد يكون في وجود معجزات بها، بل قد يكون معجزا من حيث
انسجامه وتوافقه معا مشكلا بناءا جيدا يمنح للحياة قيمتها والهدف المنشود منها، وهذا
في حد ذاته معجزة يجب مراعاتها.
ومهما كان البرهان
فإنه يجب أن يكون مرتبطا بالعاطفة والعقل معا، فإن البرهان العقلي أجرد حتى وإن
كان صحيحا، والنبتة الجرداء قد تكون قوية لكنها غير مثمرة ولا حاجة لنا بنبتة غير
مثمرة وحدها في الحقل.
إذن فملخص النقل هو
أن الإنسان بحاجة لبرهان وإن البرهان يجب أن يمر عبر العقل ثم ينزل إلى القلب
فيحركه لتولد العقيدة في أوج صورها وأعظم صورتها، وهذا ما يحتاجه البناء الصحيح
للدين، وكانت من مميزات البرهان الإلهي أن يكون متناسقا عقليا ومعجزا ويحمل عاطفة
قوية تمنح المتلقي للمعجزة القدرة على تخطي الخوف القهري من العقيدة القديمة التي
شكلها الانحراف الذي قد يكون ممتدا عبر قرون طويلة.
ولهذا فالقرآن يحمل
دلائل عقلية على صدقه مصحوبة بتنبيهات وإرشادات تحمل عطف الله على عباده ورعايته،
أو تحمل زجرا مخيفا لهم لكي يرتدعوا عن جهلهم وغيهم وظلمهم، كقوله تعالى:" كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا
غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ"، فهي
تحمل مدلولا علميا حول طبيعة الإحساس
بالألم ومركزه الجلد، بينما في الآية إشارة إلى عذاب الظالمين.
ولهذا فالبرهان القرآني
عقلي لكنه يحمل في طياته الطبيعة العاطفية الضرورية لبناء الإيمان القوي الذي يحث
الإنسان على التغيير المنشود في الحياة، وهذا هو البيان الناجح في الوصول إلى
العقول والقلوب معا، وهو في حد ذاته إعجاز خاص بالقران الكريم، فهو يجمع بين
العاطفة والعقل معا، دون شعور من القارئ بأن الخطاب مبتذل وسخيف، وقد يكون صعبا
على المتمكن في الحس اللغوي من إدراك هذه اللذة الخاصة في القران فقد صدق كافر
يوما حين وصفه بالطلاوة والحلاوة.
ولا يدرك هذه اللذة
إلا المتمكن فطريا من الإحساس بالبيان اللغوي ونادر جدا في هذا اليوم، ولكن لكل أهل
زمانهم لغتهم التي يفهمونها ويمكن أن يصيبهم الإعجاز فيها، ولغة هذا الزمن هي
لغوية مشتركة بين البشر ألا وهي لغة العلوم المادية، ولهذا فإن البحث عن حقيقة
البرهان في القرآن تدور حول ما حمل من معجزات علمية فيما يخص الظواهر التي لم
تكتشف أسرارها إلا في أيامنا هذه، ولهذا فالإعجاز العلمي في القرآن هو اللغة التي
تخاطب عقول الناس اليوم، والعلم في نظر الناس هو الأداة التي تثبت الحقيقة وتنفيها،
فالدعوة اليوم مجبرة على تحمل الإعجاز العلمي الموجود في القرآن للناس كأداة إقامة
حجة.
وبإجمال القول
فالحقيقة تحتاج لبرهان، والبرهان يحتاج إلى عنصر إعجاز من طبيعة ما يفهمه الناس
فالقرآن هو برهان للناس ودستورهم، والحاجة لإثبات صدق القرآن تحتاج إلى عنصر ينفي
عنه الصناعة البشرية ويثبت أنه منزل من الله، وهذا هو البرهان المادي على الأشياء
الروحية، فهي إذا أثبتت ماديا فإنها بدورها برهان على السلوكيات المادية، فما
يقبله القرآن من سلوك يقبل ومن يعارضه يعارض ويرفض.
فلهذا فنحن في
عقولنا نحتاج أولا لإثبات صدق مصادرنا، ثم نحتاج إلى العمل بما فيها إذا ثبتت
صحتها، وهذا مبدأ عقلي أساسي تتم على أساسه التصرفات الصحيحة.
الأصل الأخير وردة فعل للأصول الأخرى بعد إدراك طريق أنه مخير، فإنه يعلم
أنه مسؤول يأتي اتخاذ القرار، هذا القرار يجب أن يكون فعلا محددا وليس كلاما.
فكونك مسلما لا يعني أمرا لفظيا مجردا من الفعل اتجاه قضية الإسلام، بل
يعني أنك عنصر اختار طريق وتحمل المسؤولية، وعليه أن يقدم أفعالا تثبت صحة اختياره.
هذا هو جوهر كل شيء في الحقيقة هو الإثبات وهو الوجود، فإثبات أنك موجود عن
طريق أفعالك يثبت حقيقة الرسالة التي تريد نشرها، ويثبت الهوية التي تنتمي لها
يثبت ما أنت عليه حقا، لهذا قال سبحانه وتعالى:" كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَن
تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ".
فالله يمقت أن يقول الإنسان شيئا ولا ينفذه، وكثير من الناس فيهم هذه الصفة
المقيتة التي هي سبب عدم جدوى أي مشروع إسلامي إلى يومنا هذا وهو أن المجتمع مليء
بمن يقول ولا يفعل.
وسبب عدم نجاح المسلمين اليوم هو في انتشار هذا الوباء بينهم وهو أنهم
يقولون ما لا يفعلون.
فإذا اجتمعوا أثناء الحديث حسبتهم على قدر من القوة والعزم ما ليس لغيرهم،
ثم إذا حانت ساعة الفعل ولوا كلهم مدبرين، وعلى كل حال هذه ليست في المسلمين فقط
بل في غالبية شعوب العالم، إلا أنها في العرب وبني إسرائيل أكثر من غيرهم، لهذا
ضرب الله المثل للعرب في القرآن ببني إسرائيل لتكون لهم العبرة من مغبة أن يقولوا
ما ليسوا هم أهلا له.
ولنشرح
القضية أكثر فإن الإسلام أراد أن يعلم الناس تحمل المسؤولية الفعلية عن العقيدة
والاختيار، لهذا كان مفهوم العمل السياسي في الإسلام يأخذ طابعا مختلفا عن العمل
في أنظمة ملكية أخرى، فهو مبني على أساس تتم فيه المشاركة على أساس واسع ومسؤول من
أقل العناصر تأثيرا في المجتمع فما
فوق،
فانطلاقا من المبادئ الأساسية التي ذكرتها، شكل الإسلام نواة الفكر السياسي له
الذي يعتمد على تحمل العنصر المسلم القرار الكامل والمسؤولية عن أفعاله، ويشكل
لنفسه رابطا سياسيا مع جماعته التي اتخذ طريقه معها وكون فكره معها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق