وانطلاقا من هذه الحالة النفسية المحددة يمكننا أن نشكل تعريفا اصطلاحيا
كاملا للبيعة، إذن هي عقد بين جماعة والفرد الإمام على العمل في سبيل إقامة دولة
تعمل بشريعة الرحمن على أساس يكون فيه كل من الجماعة والإمام مخيرين غير مكرهين،
وأقرب ما تكون إلى الوكالة تعقد وتنقض برضا أحد الطرفين، على أن يكون فيها المبايع
يملك حق الطاعة على من بايعه إذا هو أوفى بشرط البيعة الأساسي وهو العمل بشرع الله
في الناس.
هذه هي البيعة في الإسلام وهي
الطريقة المثلى لاختيار القائد وليكون المنقاد عارفا فيما ينقاد فيه وهذا لقوله
صلى الله عليه وسلم: عَنْ أُمِّ حُصَيْنٍ
الأَحْمَسِيَّةِ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عَليهِ وسَلمَ
وَعَلَيْهِ بُرْدٌ مُتَلَفِّعٌ بِهَا يَقُولُ: إِنَّ
أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَاسْمَعُوا لَهُ مَا قَادَكُمْ بِكِتَابِ
الله
فرسول الله قرن الطاعة بإقامة كتاب الله كنظام
تشريعي حاكم للأمة كلها يسهر فيه الحاكم على تطبيقه فقط هو مكلف من الأمة بإقامة
هذا وإن أخل بهذه المهمة يكون قد أفسد ما كان مكلفا به، وبهذا يزول حقه في الطاعة وهذا
أيضا ما يدعمه الحديث الذي أورده الألباني في سلسلته الصحيحة عن ابْنَ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ سَيَلِي أَمْرَكُمْ قَوْمٌ يُطْفِئُونَ السُّنَّة،
وَيُحْدِثُونَ الْبِدْعَةَ، وَيُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا» .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَكَيْفَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَدْرَكْتُهُمْ؟ قَالَ:
«يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ، لَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى
اللهَ» ، قَالَهَا ثَلَاثا. واللفظ للإمام البيهقي من
كتاب دلائل النبوة والحديث موجود في السلسلة الصحيحة للالباني
والمتدبر للحديثين يدرك أن البيعة فعل
وليست لفظا، فهي تلزم صاحبها القيام على كلامه على أساس إثباته أو إنكاره، فهو
يثبت بيعته فعلا إذا كان الإمام قائما بما هو موكل فيه من إقامة شرع الله وحفظ
الدين والأنفس والأعراض والأموال، بينما تنتفي الطاعة إذا تنكر الإمام لواجبه، وصار
بدل أن يكون مصلحا مفسدا، وهذا الكلام هو الذي سوف يفسر حركات أهل البيت الثورية
التي قادوها انطلاقا من الإمام الحسين رضي الله عنهم جميعا، فهم مدركون تمام
الإدراك مفهوم العمل السياسي في الإسلام، ويعرفون أين تنتهي حدود الحاكم وأين
تنتهي حدود الرعية، ولولا تلك الحركات الثورية لهم لما أدركنا جيدا حقيقة النظام
السياسي في الإسلام وكيف هو قائم.
لقد رسخوا المبدأ الحقيقي والذي لخصوه في أمرين:
- الأول هو حماية الأمة الإسلامية.
- الثاني هو بقاء الأمة تحت إمامة رجل واحد
يكون القائم الأساسي على شؤونها ومشاركا فاعلا في تحديد مصيرها.
ولعل أبرز من رسخ فكرة أن حماية الأمة وحماية
الأنفس ضرورة قبل كل شيء هو الإمام الحسن رضي الله عنه، فبالرغم من عدد من كانوا
معه وبالرغم من قدرته على حرب معاوية، وبالرغم من إدراكه لمدى بعد معاوية عن الحكم
الراشد، وبالرغم من إدراكه أن معاوية وحاشيته ستسعى للغدر وهم أولى به، فإنه فضل
حماية الأمة من حرب ربما تمتد لسنين طويلة يذهب فيها الأخضر واليابس، لقد فضل
الحسن أن يتنازل عن حقه بكامل إرادته ليسلم السلطة لمعاوية، وفي خطبته قال كلمة
مشهورة رسمت في أذهان سامعها أنه كان يعلم أنه لا يقدم لمعاوية سوى مسؤولية ستكون
بمثابة فتنة له، فقد أشار عمرو بن العاص على معاوية بأن يلقي الحسن خطبة بعد
تنازله لمعاوية، و لَمَّا سَلَّمَ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَمْرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ
بِالنُّخَيْلَةِ: قُمْ فَتَكَلَّمْ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ
قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَكْيَسَ الْكَيْسِ التُّقَى، وَإِنَّ أَعْجَزَ الْعَجْزِ
الْفُجُورُ أَلَا وَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي اخْتَلَفْتُ فِيهِ أَنَا
وَمُعَاوِيَةُ حَقٌّ لِامْرِئٍ كَانَ
أَحَقُّ بِهِ، أَوْ حَقٌّ لِي تَرَكْتُهُ لِمُعَاوِيَةَ إِرَادَةَ إِصْلَاحِ
الْمُسْلِمِينَ، وَحَقْنَ دِمَائِهِمْ، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ
فالحسن كان يدرك إدراكا جازما أن حقن دماء المسلمين أولى من التكهن بفساد
حال بني أمية في الغيب، مع أن الدلائل كلها تشير أن معاوية لن يقيمها أبدا، بل من
يده يبدأ اعوجاج الأمة واعوجاج نظامها وفساد حالها.
فكانت نهاية حكم معاوية بداية مشاكل أمة محمد
وبداية الفرقة الحقيقية بين المسلمين، فقد شتت شملهم وأفسد ذات البين بعد أن أخذ
الحكم لابنه، وبدأت بعد كل هذا حروب عقائدية لم تنته إلا بظهور فرقتين كبيرتين
تكفر إحداهما الأخرى، وقتالهم قائم لليوم كله بسبب مقتل سبط رسول الله الحسين
مظلوما ظلما شديدا على يد ابن عمه يزيد.
إن معاوية شارك قابيل في الجرم فقد سن قابيل
القتل وسن معاوية الملكية والتسلط باسم الإسلام وبدأ بابنه إذ جعله قائدا على
المسلمين دون وجه حق أبدا، فلا يزيد هو صالح ولا في الأمة من هو أقل من يزيد شأنا،
وإن ما أراد به معاوية عز بني أمية أذل أمة محمد وفرق شملها، وقتل الحسين بطريقة
جبانة وغدر مقيت جدا، ولم يتوقف الأمر هكذا فقد صار الصراع بين فئتين من المسلمين
ثابت، فئة تدعم الملوك وفئة تحاربهم، وجيلا بعد جيل كان يموت لأهل البيت نجم من
بعد نجم ويختفي لهم قمر بعد قمر حتى وقع فيهم قتل كثير وملئت كتب التاريخ بقصص
فظيعة وحزينة لموت ذريع وسط ظلمة شديدة وبلاء عظيم وصدق رسول الله إذ قال عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ فِتْيَةٌ مِنْ
بَنِي هَاشِمٍ فَلَمَّا رَآهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ قُلْتُ لَهُ: مَا نَزَالُ نَرَى فِي
وَجْهِكَ شَيْئًا نَكْرَهُهُ، فَقَالَ: «إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَى
الدُّنْيَا، إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي سَيَلْقَوْنَ بَعْدِي بَلَاءًا شَدِيدًا وَتَطْرِيدًا حَتَّى يَأْتِيَ قَوْمٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ وَمَعَهُمْ رَايَاتٌ
سُودٌ، فَيَسْأَلُونَ الْحَقَّ فَلَا يُعْطَوْنَهُ فَيُقَاتِلُونَ فَيُنْصَرُونَ،
فَيُعْطَوْنَ مَا سَأَلُوا، فَلَا يَقْبَلُونَهُ حَتَّى يَدْفَعُوهَا إِلَى رَجُلٍ
مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَيَمْلَأَهَا قِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا فَمَنْ
أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَأْتِهِ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ"
والحديث صحيح في مصادر كثيرة وهو حديث معروف.
و على هذا الأساس أردت أن
يكون هذا الكتيب وهو نصر لهذه الفئة المظلومة من أمة محمد مظلومة تاريخيا ومخذولة
من الناس، فقد اتبع الناس الملوك وتركوهم وإن ذكرني هذا التاريخ الحزين لهم فإنه
يذكرني بأنبياء بني إسرائيل إذ كان يأتي النبي فيقول الحق فتقتله الملوك، ويطاوعهم
على ذلك الناس وقتل أنبياء كثر من بني إسرائيل من خيرة ولد إسحاق.وأمة محمد نهجت تلك السنة فقد قتلت أئمتها من صالحي ولد السبطين الحسن والحسين وكان بعضهم أشبه في سيرته بسيرة الأنبياء، والعجيب نجد اليوم من الناس من يقرأ القرآن ويحمله على بني إسرائيل متناسيا أن الخطاب عنهم ولكنه موجه لنا.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي
بيده لتتبعُن سَننَ الذين من قبلكم، شبرًا بشبر،
وذراعًا بذراع، وباعًا بباع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه! قالوا: ومن هم، يا
رسول الله؟ أهلُ الكتاب! قال: فَمَنْ!
وإن كانت بني إسرائيل
قتلت الأنبياء ومرت عليهم السنن، فأمة محمد قتلت أشباه الأنبياء ومرت عليهم السنن،
وما فيهم هم اليوم من هوان إلا من فساد أسلاف اتبعوا سننهم وأفكارهم، ولإن قلت لهم
ذروا دين الآباء والأجداد واتبعوا الحق
"وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ"
هذه
الحقيقة أنهم يعقدون الإيمان على اتباع السلف، وأي سلف هذا، لقد اتبعوا سلفا
وتركوا آخر، فاتبعوا ملوكا وسننهم وتركوا أئمة ونجوما وطريقهم، وهذا لأنها بعيدة
المشقة وقد يذوق صاحبها طعم المنية قبل أن يرى نور ما عمل من أجله.
هنا في
هذا الموضوع سنوضح تلك الطريق التي اختارها أهل البيت، ولم اختاروها بدل طريق الصبر والسكوت، ولنفهم
القصة كاملة علينا أن نعلم أن أهم مبدإ بني عليه النظام السياسي في الإسلام وفي
العالم كله البيعة على أساس الشورى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق