وكما كان دوما علينا لزاما اتباع سنن بني إسرائيل، فلقد خاض المجتمع الأوروبي
قبلنا حروبا مريرة مع الكنيسة التي أحكمت سيطرتها على الأوضاع الاجتماعية
والسياسية، ولم يسلم لها هذا إلا بمحاربة الفكر التحرري، فراحت تضطهد كل من يدعو
للتحرر وإعمال العقل والعلم والتجريب، فقتلت خلقا كثيرا وعذبت خلقا كثيرا، فكان مع
مرور الزمن حقد وكره يختفي تحت جلد الصدر، أعقبه ثورة هائلة على الأخضر واليابس من
الكنيسة فصلبت الكنيسة بعيدا عن طرق الناس، وخطف منها المنبر وأعطي إلى غيرها وضرب
بها عرض الحائط، فأصبحت هشيما تذروه الرياح، وتحرر الأوروبي من الأخضر واليابس
فأصبح -بدل أن يكون مصلحا- مفسدا، -وبدل أن يكون عادلا- ظلوما -وبدل أن يكون
عالما- جهولا.
فتعلم من حرف العيش كل شيء وتنكر لكل أخلاقه ومبادئه، وأصبح متطرفا نحو
المادة على حساب الروح، وسبب كل هذا التطرف هو السلوك الخبيث للكنيسة التي حرمت
على الناس حقهم، وأحلت لغيرهم ما هو حرام عليهم، فجعلت الناس في العقول طبقات فآخر
يحق له القول والتفكير ويحق له أن يجبر الناس، وآخر ليس له حق التفكير أصلا.
ولقد تبنت الكثير من الهيئات الحكومية ومجالس الإفتاء وأساتذة الجامعات نفس
منهج الكنيسة، فأمرت بتعطيل العقول وحرمت الاجتهاد على الناس، وجعلت الدنيا في فئة
من الناس مخصوصة، لهم الخيرة من أمرهم ومن أمر الناس، يقولون فيحكم بقولهم،
ويأمرون فيطاعون، ولا يُسألون عما يفعلون.
ولعل أهم ما شرعه هؤلاء الحكام هو تقديم الحصانة لهيئاتهم العلمية التي
تضمن لهم الحصانة من الثورات الشعبية قبل كل شيء، وتضمن لهم السلطة على أرزاق
محتسبة من الخزينة العمومية ليكون ذخرا للملك وحاشيته يستعملها في تحذير الشعوب
وإيهامها بالسعادة.
وتسعى هذه الهيئات جاهدة لإقناع بأن الاجتهاد في الأمور السياسية والنوازل
مقتصر على فئة من الناس، ألا وهم العلماء الربانيون الذين أفنوا عمرهم في حفظ
الكتب والمتون، والتحليق بالمساجد والسفر في الطائرات للبلدان من أجل طلب العلم،
فهؤلاء هم النخبة الذين يجب أن يكونوا قادة الناس
والأئمة منهم، والذين لهم حق الاجتهاد في المسائل العامة والخاصة والمطلقة
والمجملة، ولا يحق الاجتهاد إلا لمن أدرك العلوم من متونهم والفنون من كتبهم، ويزكي
بعضهم بعضا وفق هذه المناهج والكتب التي يتدارسونها ويقدمون بعضهم بعضا للفتية
ويقدم بعضهم بعضا للحاكم، فيجزل لهم الحاكم العطاء، ويفتح بأسمائهم المساجد
والمدارس وما شابه ذلك، ويحرص على نقل ما يقولون ويأمر بكتبهم أن تكتب، وبعلمهم أن
ينشر في الآفاق، فيكثر ذكرهم ويكبر شأنهم، ويصيرون إلى العلم واجهة، وتحقق
رغباتهم في نشر مذاهبهم وأقوالهم، ويفرحون بذلك فرحا، ويشكرون حاكمهم شكرا
على ذلك منقسمين إلى فريقين: فريق يبتغي وجه الله جهلا، وفريق لا يبتغي وجه الله
أصلا، وفي كلا الفريقين يأخذ الحاكم حقه من كل هذا، فهو لا يعمل شيئا لطالب العلم إلا
بمقابل أكثر منه، فهو دائم التحسس والتوجس من مذهب الحق الذي يحث الناس على خلعه
ونزعه، ولا سبيل له لمحاربة هذا المذهب إلا بمذهب يأتي به علماء بلاطه ورواد
مجالسه، وهذا هو المذهب الذي يكونه هؤلاء العلماء المحيطون بالسلطان، وأهم ركائز
هذا المذهب هو تعطيل التفكير الحر وصب جام الغضب على العقل، وجعل العقل منزل
المصائب، غير محمود العواقب، وينسبون للعقل الهوى والكلام والتمنطق، ويقولون من
تمنطق تزندق، وما ذكروا العقل والفكر إلا ذكروه بشر، وما ذكره الله في القرآن إلا
ذكره بخير، وبعد أن يفسدوا العلاقة بين المرء وعقله، فيصبح العقل مكانا مشؤوما لا
يحتج به، يلجأ هؤلاء الطائفة من العلماء لفتح سبيل آخر للحقيقة وهو العلم، وما هو
العلم في قواميسهم ليس عند الله علما، إنما العلم عندهم هو كثرة ما تحفظ من القرآن
والحديث والمتون، وطريق هذا صعب طويل فكم يفني المرء حياته وهو يحفظ متنا وكتابا
في ظل ظروف اقتصادية قاسية تعصف بالعوام والفقراء من الناس الذين يتعرضون للألم
الضروري الذي يبني الشخصية الحقيقية للرجال الذين يستحقون لقب المجددين والمغيرين.
فليس لأغلب هؤلاء الوقت اللازم للإحاطة بهذه العلوم التي وضعوها والفنون
التي دمجوها مع العلوم، فتصبح المهمة عسيرة تحتاج إلى مال وجهد، فتنفر الناس منها
وتتركها، فيستأثرون بها ويجعلون لأنفسهم حق القيادة على الناس، لأنهم الوحيدون
المكلفون بالاجتهاد وفق ما ترتضيه القارحة العلمية التي يحملونها ولا يحملها
الناس، ولعل قليلا من الناس من يصل إلى ما وصلوا إليه من حفظ للكتب والمتون وإلمام
بالعلوم والفنون إلا إذا توفر لهم المال والفراغ، وقليل من الناس من يتوفر لهم هذا
الشيء في ظل نظام حاكم ظالم يأخذ الحكم ظلما وعدوانا.
ولهذا يسعى هؤلاء الفقهاء وعلماء السلطان في حق الاجتهاد، وفي هذا تعطيل للعقل
والفطرة السليمة والألباب المستقيمة، ولن يسلم لهم مذهبهم إذا تعلمت الناس استعمال
عقولها السليمة وفطرتها الكامنة في معرفة الحق والباطل والحق والواجب، ولإلجام
العقل السليم عن التفكير والفطرة السليمة عن الإفصاح، لابد من قطع سبيل الحرية في
التفكير والحرية في إبداء الرأي، فيكون الرأي بوابة الفتن والشر، ويستدلون بالآثار
المشتبهة ويتركون الآيات المحكمة التي حثت على استعمال العقل والتدبر في شؤون
الحياة المادية والروحية للإنسان، حتى يتمكن الإنسان من إدراك الحقيقة على ما هي،
وهذا الخطاب القرآني ثابت دوما في الحث على إعمال العقل كقوله تعالى: " فَاعْتَبِرُوا
يَا أُولِى الْأَبْصَارِ" وفي غيره" أولي النهى" وفي غيره "
أولي الألباب"، أما الخطاب السلطاني فهو لو كان الدين بالرأي ما كان هذا هكذا، وغيرها من الآثار التي توارثوها عن السلف
وفهموها على غير ما جاءت به أو أرادوا أن يفهموها هكذا.
فالحقيقة أن معظم كلام السلف حول عدم إعمال الرأي كان في المسائل التعبدية
التي هي بمقتضى العقل السليم مسائل توقيفية لا تتبين صفتها إلا بوحي يحمل معناه
على ظاهره دون تأويل، أما المسائل التوفيقية فهي ما يجب فيه إعمال العقل للخروج من
الموبقات والظفر بالصالحات من الأعمال.
فمسائل الاجتهاد في م اورد بالتعبد الطقوسي كالصلاة أو الحج أو الصيام،
فهذه مسائل تتعلق بطقوس تعبدية منزلة من الله ليس فيها للإنسان أي شيء في صفتها
ومحلها المكاني أو الزماني، ولكن المسائل ذات الصبغة العامة المتعلقة بالشؤون
العامة التي يكون فيها التعامل بين بني البشر، فهذه مسائل يحق لكل إنسان الاجتهاد
فيها فيما يظنه الحق والنفع له ولأمته.
ولكن ينقلون ما ورد من تحذيرات عن السلف في التوغل في المسائل العلمية
المتعلقة في العلاقة بين الله وبين الناس ويقيسونها على المسائل المشتبكة بين
الناس كالسياسة والتجارة، وهذا قياس فاسد من حيث الصفة فهما يشتركان في العلة
ربما، ولكن لا يشتركان في الصفة، فما بين الله وعباده من مسائل تعبدية لا يحق
للإنسان أن يجتهد فيه بما يبديه له رأيه أو عقله فهو مما لا تدركه العقول كاملا،
فهي إن عرفت له علة ربما جهلت له أخرى، فلهذا لم يكن الأجدر بالناس الاجتهاد فيه
إلا عند الإلمام بجميع الأخبار فيه.
وقلت هذا الإلمام لا يكتمل لجميع الناس فشرع الله للناس أن تتخذ طائفة منهم
ليتفقهوا في الدين ( التعبد) ولكن في المسائل غير المنوطة بالعلاقة بين الله
والناس، بل هي مما بين الناس والناس، كالسياسة فهذا على كل إنسان الاجتهاد فيه حسب
قدرته ليكون مسئولا أمام الله عن بيعته
وعن اختياراته وعن جميع ما يحدث في أمته التي اختار أن ينتسب إليها، بل ويجب عليه
إدراك ما يحتاجه في حياته العملية والاجتماعية كإحكام التعاملات التجارية
والاجتماعية والأخلاق الإسلامية الواجبة والمندوبة.
و لأن الله لن يحاسب الأمم فرادى بل لكل أمة إمام زمانها الذي تتبعه يوم
القيامة، ومن يعي هذا فليقرأ قوله تعالى: " وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ
أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا"، فالله جعل للأمم كتبا لأعمالها
دونت فيها خيرها وشرها وأئمتها وحكامها، حتى جاءت يوم القيامة كل أمة ولها إمامها
وكتاب أعمالها، فلهذا للإنسان الخيرة من أمره، فيختار لنفسه ما ينجيه أو يتبع
فيكون من المتبعين غير المجتهدين، فإن أصاب قومه خيرا أصاب أدنى الأجر منهم، وإن
أصابوا شرا شاركهم في ضعف العذاب أو لم يقل الله في خصامهم.
ولهذا كان لازما على الناس تعلم تسيير جميع أمورها وفق الطريقة التي تظن
أنها تنشر الخير الذي ندب له الدين الناس.
ولا أعلم فيما قرأت ولا فيما عقلت ولا فيما أنست شيئا خيرا من مشورة العبد
لأخيه، فالمشورة تمام البر بإخوتك وتمام العدل وتمام الإبلاغ، وليس أحب إلى الله
من مشورة يتبعها الرضى الذي يرفع للنفوس هممها ويحث الناس الناس على الأخذ بقوة.
ولهذا فالله أمر نبيه المؤيد بالوحي أن يشاور الناس ويعلمهم مشاورة بعضهم
البعض قبل أن يعزموا، فقال:" وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ".
وهذا هو السلوك الجيد لتربية الناس على تحمل المسؤولية الكاملة اتجاه
خياراتهم ليدافعوا عنها في المستقبل من أجل الحفاظ على حوزتهم وشوكتهم ضد الأمم
الأخرى.
وفي غياب هذه المشورة يختفي الحس بالمسؤولية، وتتحول السياسة بالنسبة
للعوام فأل نحس وأرض نجس لا خير فيها، وهذا شر الأمور ومربط الهلاك وأشر من المسيح
الدجال نفسه.
وهؤلاء العلماء الذي ينومون الشعوب لا يرون وراء هذا التنويم عن
الاجتهاد الخطر الذي يجلبونه لهذه الأمة،
ولا يدركون أنهم لا يخدمون إلا مصالح سلاطينهم، ولا يرون أبدا مصالح أحفادهم
وأبنائهم في المستقبل القريب أو البعيد، فإن الله لا يقدس لقوم يكون أمرهم دولة
بين الأغنياء منهم.
ولابد لهم من محاربة الخطاب السلطاني وحث الناس على التحرر فكريا أولا ثم
التحرر جسديا، فإن كانت الروح مكتوبة تحت أفكار فاسدة يمليها عقل مريض عليها فإن
الجسد سيكون كالجيفة التي تتحرك أينما ذهبت تركت نتنها، وسبحان الله فالكفار
الماديون الذي استحبوا الحياة على الآخرة مثل النجس والجيف يلوثون الحياة الروحية
والحياة المادية كذلك بسلوكهم الخاطئ نحو أنفسهم ونحو العالم، ولهذا لا يجب على
الإنسان أن يكبت تحرر روحه من أفكار وضعتها حسابات مادية زائلة تحت مسميات فقه
المصالح أو المفاسد،
فالمفسدة الكبرى هي أن تبقى تتلوث بجراثيم السيوف والأقلام المأجورة، ولا بد لها إن أرادت أن تحيا الحياة الكريمة أن
تتحرر من أغلال السلاطين والملوك، ولن تتحرر منهم حتى تتحرر من طلاسم وتمائم
سحرتهم، والساحر صنفان ساحر بجن وساحر بفن، ولكل سحرته، وسحرة هذا الزمان هم علماء
البلاط لأنصاف الفراعين في العمل وأضعافهم في الطغيان.
فماهم
كفرعون في ما له من الملك والحضارة ولكنهم في الطغيان أكثر من فرعون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق