التشريع دين

قال الله تعالى:" مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ" فهذه آية افي سورة يوسف تبين ن التشريع والقانون عند الله دين، فلم يكن ليوسف عليه السلام أن يلقي القبض على أخيه إلا أن يأتي بجنح تمكن يوسف من ضمه إليه تحت طائل القانون، فكاد يوسف لإخوته فأتاح له قانون الملك أن يأخذ أخاه، وقد  قال سبحانه وتعالى:" فِي دِينِ الْمَلِكِ" أي قانونه وشريعته التي كانت تمنع من أخذ الناس دون سوابق وجنح، فالله سماها دينا كما سمى الإسلام دينه وقال:" وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ"، ويتغافل من يظن أن التشريع شيء والإسلام شيء، فالإسلام هو تشريعاته وأحكامه، وهي ركنه وأساسه، ولا يمكن فصلهما، وهي شاملة من أمور العبادة إلى أمور الحكم والسياسة، وكلها تشريعات من مشرع واحد، وإن هذا الدين لا يصلح إلا أن يؤخذ من كل جوانبه، فمن تنكر لإسلامه في الصلاة كمن تنكر لإسلامه في السياسة فهم سواء، ومن يعلم الناس كيف تساس الأمور بالإسلام كمن يعلمهم الصلاة فهم في الأجر سواء، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب حتى كان عند قوم المثنى بن الحارثة فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأجابه و قال: إن هذا الذي تدعو إليه مما تكرهه الملوك، وإن بيننا وبين كسرى عهدا ألا نحدث حدا أو نؤتي محدثا فإن شئت منعناك مما يليك من العرب، أما فارس فلا، فقال رسول الله: إن هذا لأمر لا يصلح إلا أن يؤتى من جميع جوانبه.
 فهذا المثنى بن الحارثة كبير قومه يقول للرسول أنه مستعد ليسلم على أن يمنعه من كل العرب إلا الفرس لقوتهم، فالنبي يرفض إسلامه ولا يقبل منه مثل هذا الشرط.
وهذا في بداية الدعوة النبوية، وفي هذا دليل قاطع على أن من حصر الإسلام في كونه منهاجا للدعوة للتوحيد المجرد من السياسة فهو دعوة باطلة، بل التوحيد الذي يدعو إليه الأنبياء هو منبثق من اليوم الأول من أساس واحد يتم فيه توحيد الحكم كله لله سواء أحكام تعبدية أو مالية أو سياسية أو اجتماعية بحيث يكون النبي فيها خليفة الله في خلقه.
ولو كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم تقيم المصالح والمفاسد على حساب النهج والعقيدة، وتتقي الشر بالشر الذي هو أخف منه لكان الأولى به قبول عرض المثنى بن الحارث سيد قومه، وفي هذا الرفض حكمة كبيرة تكمن في كون أن الرسالة الإسلامية أغلى من يساوم عليها البشر وأكبر من يخاف عليها من كسرى، بل على كسرى وأمثاله  اليوم أن يخافوا أشد الخوف  من الدعوة الإسلامية التي شيدها محمد صلى الله عليه وسلم، ولو لم تكن الدعوة الإسلامية تحمل هذه الصبغة الثورية العالمية المجسدة في التوحيد المطلق للإله الواحد الأحد المشرع الأوحد، ولما شكلت خطرا على النظام البراغماتي في قريش ومن جاورها من الدول الكبرى.
فالنفي الذي تضمنته -لا إله- كان نفيا شاملا لجميع ما تحمله الشرائع الأخرى من عبادات وقوانين، والإثبات في الشطر الثاني من الشهادة يثبت إثباتا قطعيا الألوهية المطلقة لله سبحانه أنه شرع واصطفى من الخلق وسوف يحاسب وفق شرائعه التي أرسلها للناس عبر من اصطفى لهم من البشر، وهذا ما كانت ترفضه الأنظمة الكافرة التي كانت على أساسيات ومبادئ وتشريعات مسبقة الوجود تضمن لها الاستقرار الذي بدوره  يحقق الرغبات المقتصرة على فئة محددة من ذوي النفوذ.
وهذا هو ما تخشاه الأنظمة حديثا وقديما من الدعوة الإسلامية المتضمنة للنسق السياسي المتكامل مع النسق الفكري للحياة العامة والخاصة للناس،  لأن هذا سوف يدق أبواب عروشها ويدفع بالناس نحو التبرئ من التبعية لها والتوجه نحو خط جديد، نحو أفق جديد ألا وهو الإسلام الذي يمثل الخلاص من ظلم الجاهليات المادية ومن التبعية المطلقة لها، والتي طالما تألم الناس بسبب ما أحدثته من حروب وانتكاسات في حياة البشرية منذ أن حكمت الأرض، وهذا هو جوهر الدعوة الإسلامية التي قام بها الصحابة بعد رسول الله إلى الملوك الأخرى، فهذا المغيرة بن شعبة وابن عامر يقولانها صراحة لرستم قائد الفرس - أننا جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى سماحة الإسلام -
ولو كانت دعوة الإسلام دعوة مجردة من السياسة في بدايتها لما رفضتها قريش ولما هددت عروش الملوك، ولكنهم أدركوا جميعا أن الدعوة لنظام عادل يقوض الأحكام المادية ويصغرها ويرفع بدل رايات الملوك والجبابرة رايات الحق والعدل، فتقطع يد كل ظالم ويرد حق كل مظلوم بعض النظر عن دينه، ولكن لما حملت الدعوة الإسلامية البشارة بتحرير الشعوب وإسقاط الأنظمة المادية القائمة على استعباد البشر عن طريق تحريف الدين والتلاعب بمعانيه قامت هذه الأنظمة المنتشرة في بقاع الأرض بمحاربة الدعوة الجديدة محاربة مطلقة وشرسة عن طريق  أتباعها من العرب، فلم تغفل الروم عن هذه الدعوة وكانت تستجلب الأخبار من قريش، والقصة مشهورة بين هرقل وأبي سفيان.
فلا إله إلا الله التي دعى لها رسول الله صلى عليه وسلم كانت تحمل في طياتها عدة معان، ومن أهم ما قرأه الكفار أنه إذا حملت لا إله إلا الله على ما أنزلت عليه فإن أمما وملوكا تخلع ولا تقوم بعدها لها قائمة، وتنشأ بدلها دولة جديدة ذات قيم منبثقة من التشريع المستمد من إله لا يأتيه الباطل أبدا لكونه منزها عن الغرائز والسفليات العاطفية التي تختلج البشر  اضافة الى نقص العقل البشري.
وجوهر استعباد الشعوب هو إخضاعها لشرائع منبثقة عن عقول مجموعة من البشر وإلزام الناس باتباعها باعتبارها التشريع الأسمى في البلدان، وهذه هي العبادة التي قال عنها الله سبحانه وتعالى: " اِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ". وقد حاج أهل الكتاب ابن عباس أنهم لا يعبدون أحبارهم فرد عليهم ابن العباس فقال: ألم يحرموا لكم ما أحل الله فأطعتموهم، وأحلوا لكم ما حرم الله فاتبعتموهم فتلك عبادتهم.
ومحاولة حصر الإسلام في شهادة لا إله إلا الله  كلفظ فقط وإقامة بعض العبادات كالصلاة والزكاة بشكل فردي وكأن الإسلام دين تعبد وتعاملات على المستوى الاجتماعي فقط هو من سنن اليهود والنصارى وليس من سنن الإسلام الذي هو دين جماعة قائمة بأصلها المنبثق عن تشريع سماوي وتعمل وفق منهج واحد لإقامة دين الله في الأرض جملة وتفصيلا والوصول الى منطقة من الامان المضمون للشعوب بناءا على العدل فلا يكتمل لهذه الشعوب سلام ولا امن ما لم يكن هنالك حكم رافع لمكاركم الاخلاق قاهر ومذل للمسافل  .

ولهذا فالفرق التي تحاول سحب الإسلام من جميع حياتها السياسية والاقتصادية إنما هي فرق كفرت بقدرة الإسلام على تغيير العالم، وحتى وإن مارسوا الطقوس التعبدية للإسلام كالصلاة أو الحج فهم ليسوا  بذلك الاسلام الحقيقي من قريب ولا من بعيد لأنهم فقدوا الثقة في تشريعات الله، فقدوا الثقة في كون الإسلام قادرا على تغيير العالم للأفضل، باختصار هؤلاء فقدوا الثقة في الله "إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ".
فالإسلام ليس حروفا تكرر عند كل صلاة، أو حركات تعبدية أو أخلاق اجتماعية محمودة فقط، ولكن الإسلام دين ونظام متكامل صالح ليسود به أهل الأرض من مشارقها إلى مغاربها، ومن لم يعلم حقيقة هذا فإسلامه ناقص غير مكتمل وفي عقيدته ضعف كبير، والواجب اعتقاده أننا الأمة التي كرمها الله بنبيها لنكون شهداء على الناس، فنقيم الحق ونبطل الباطل، ونردع الظلم ونقيم السلام في الأرض، وننهى عن المنكر ونيسر للناس المعروف فيدخلون في دين الله أفواجا.
" كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ".
ولا يمكن أن نكون هذه الأمة إن لم نملك قانونا ممتدا من الله، لا يمكن أن نكون هذه الأمة إلا إذا امتلكنا القدرة على فهم الغايات من تشريعاتنا التي ارتضاها الله لنا، والتي تتجسد كلها في العدل وما  ينافي الظلم .
إن أول ظلم قام به الإنسان وأكبر ظلم هو أن ينسب لله ما ليس له، ثم يشرك بالله أحدا من خلقه، وهذا هو الظلم العظيم، ثم مما زاد عليه الإنسان ظلم الإنسان لأخيه، فاستحل ما لا يحل له وحرم على الناس ما يحل لهم، وهذا بناء على هواه وطريقة فكره التي هي مستمدة من الهوى والنفس فقط وليس لها أي علاقة بالفطرة أو العقل السليم.
وأسوء ما أحله الإنسان لنفسه التشريع للناس بشرائع جاء بها العقل الإنساني، أو ربما ليست عقلا ربما غرائز فقط شرعت بالعقل ما يجمع لها الكثير من الشهوات.
هنا نطرح إشكالية التشريع العلماني؟ هل هو تشريع يضمن حقوق الإنسان حقا أم تشريع يحفظ مصالح المشرعين فقط؟ من يحق له التشريع ومن لا يحق له التشريع؟ من يجب أن يكون موجودا، المشرع أولا أم المنفذ؟ من يضمن نزاهة المشرع أو قدرته من عدمها؟
احد اهم المشاكل التي تواجه النظرية العلمانية المحضة والتي لا تعتمد على الدين هو بمن نبدأ بالسلطة التشريعية ام السلطة التنفذية
لانه لا يوجد ضامن على نزاهة السلطة التشريعية في التشريع الا اذا كانت هنالك سلطة تنفيذية مراقبة لها ولا توجد طريقة لاختيار السلطة التنفذية المناسبة في غياب التشريه المناسب لتحديد افضل الناس للسلطة التنفيذية ورغم كثرة القوانين اليوم التي تحدد طريقة عمل السلطة التشريعية والتنفذية الا ان كم الخروقات كبير جدا وعدم الالتزام يكاد يكون سائد لهذا نقول ان ان التشريع لابد وان يسبق التنفيذ وان التشريع لا يمكن ان يكون بشري بل يجب ان يكون ارقى من الزمرة البشرية انفسهم لان البشر انفسهم خاضعون للشهوات والعواطف فلا يمكن ائتمان الانسان على التشريع لهذا فالنظرية العلمانية المحضة خاطئة جدا وانما هي تناقض في العقل السليم لا يمكن تقبله وباختصار هي نوع من اللاحرية والظلم والاختزال .


لقد أجبنا على سؤال مهم، كون عدم قدرة البشر على بناء تشريع صحيح يضمن لهم الحقوق انطلاقا من أنفسهم، لأنه لا يوجد أي صيغة للتفاهم بين البشر، لأن المكونات الشهوانية والعاطفية تطغى عليهم أكثر من العقل، وأيضا لا ضمانة أن العقول التي يملكونها هي عقول سليمة أصلا.
لا شك أن الحركات التي تحاول التجرد من التشريع الإسلامي جملة وتفصيلا ما هي إلا نتيجة من نتائج اللاوعي اتجاه القضية الإسلامية، وما سبب عزوف مجموعة من الناس عن التشريع الإسلامي إلا لوجود خلل في نقل الرسالة الإسلامية للعالم، وهذا الخلل أو العيب غير موجود في الرسالة في حد ذاتها، بل موجود في المبلغين الذين نقلوا الرسالة الإسلامية غير كاملة للناس وجردوها من قيمها الحقيقية ومعانيها السامية، فأصبحت عبارة عن عباءة تلبس للتعبد وتخلع لغيره وأصبح من السهل الفصل بين الدولة والدين في ظل وجود دين لا يحمل أي قيمة سياسية.
وأصبح من السهل الفصل بين السياسة والإسلام بل لقد تحول الأمر إلى أكثر من ذلك فقد تشكلت صورة سوداء عن العمل الإسلامي السياسي، وعادة ما يقرن العمل الإسلامي السياسي بصفة الإرهاب، وتحولت القضية الإسلامية الحاملة للروح السياسية من المحظورات الأمنية التي تشكل تهديدا على الأمن القومي.

ووفقا للنهج الذي اعتمدته كثير من دول العالم العربي فقد أصبح النشاط الإسلامي قرينة الرجعية والتخلف، وتطور الأمر حتى يوصف النشاط السياسي الإسلامي بكونه يخدم الفوضى وينشئ لفكر غير بناء وهدام، ولابد من التخلي عنه من أجل بناء أوطان مستقرة وقوية لها علاقات جيدة مع الأمم الأخرى التي ترفض رفضا باتا فكرة الإسلام السياسي.
ولقد تبنى الكثير من العرب  هذه الآراء والمذاهب واعتمدوها كحل وحيد للخروج من التخلف والالتحاق بالركب الأوروبي الذي حقق التطور بعد أن فصلت الشؤون السياسية عن الكنيسة، وتحررت العقول العلمية من القيود التي وضعتها عليها الكنيسة، ولا أحد ينكر  هذه الحقيقة التاريخية أبدا، فبعد أن ضرب بالكنيسة عرض الحائط تمكن الروم من بداية حقبة جديدة أباحت لهم جميع المحظورات فتوسعوا في المواد وكشفوا أسرارها، وأحاطوا بالكثير من العلوم المادية كالحساب والهندسة والطب والفلك، وبدؤوا عهد قطيعة مع الروح، وأسسوا عهدا جديدا اسمه العصر الذهبي للمادية، وانتقلوا بفضل المواد التي صنعوها إلى شعوب أخرى في أطراف العالم، وسعوا إلى إبادتها إبادة أزلية، جاهدين كل الجهد أن يقضوا على أي شكل من أشكال المقاومة ضد مذهبهم الجديد ورسالتهم التي بعثها الإله الجديد.
فطالما كانت الكنيسة ذات مذهب مادي منحصر في القساوسة والملوك، ولكن بعد أن تحرر المجتمع الرومي من قيود الكنيسةـ أسس قانون العدل  في ظنهم، وتساوى رجل الكنيسة مع رجل المخمرة، فالكل يسعى وراء هدف واحد وهو المتعة، وهذا  لأن البشر من المواد والبشر للمواد، فأصبحت القيمة الإنسانية لا تختلف عن الحيوان في الأهداف، وأصبح شكل الاختلاف في مستوى المكر المستعمل، فالحيل التي يستعملها البشر أكثر فتكا من التي عند الحيوان وهذا لأنها تتغذى على الكراهية والعنصرية والتدين الخاطئ أو اللاتدين البغيض، وهذا هو أشد أنواع التطرف الذي يمكن أن يحدث داخل أمة، ما أثر تعرضها للاضطهاد من أشخاص نافذين داخل المجتمع تحت شرعية يمنحها الدين حسب زعمهم، والتي يلاحظ الناس أنها تستغل فقط من أجل تحقيق مصالح مادية من طرف حكام أو أمراء فاسدين وحاشيتهم من الخطباء والعلماء.
والملاحظ عند جميع الناس في جميع الأمم أن الحاشية من الرهبان والقساوسة تحظى بالرعاية الكاملة من السلطة التي تحكم البلاد، والتي توفر لها الإمكانيات المادية للتوسع في البحث عن الحجج والبراهين الدينية على وجوب طاعة هذه السلطة والعمل لها، باعتبارها تارة مستمدة من الله أو تارة مستمدة من الشرع.
وهذا التزاوج المقيت بين السلطة الحاكمة والمؤسسة العلمية الدينية هو ما يولد البغض والكراهية للدين من طرف الناس، وفي هذا الحال إن لم تتمكن الفئة المصلحة والمعارضة للنظام السياسي من توجيه الناس نحو الدين الحقيقي فإن اغلب الناس سوف تلجأ للمذهب المادي كتعبير صارخ لرفضهم للمذهب الديني المسيطر على الوضع والذي يرسخ للظلم وكبت الشعوب واضطهادها.
ولم يسلم الإسلام من هذا التحريف الخطير في منهجه واتبعت الأمة الإسلامية الأمم الأخرى في هذا ودخلنا في جحر الضب الذي دخلوا فيه،
وكانت أول إشارات الانحراف بداية الحكم الأموي والذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة: " هلاك الإسلام على أيد أغلمة سفهاء من بني أمية".
والحقيقة هي أن الإسلام المفهوم حاليا لم يحفظ خير حفظ إلا في زمن بني أمية، لكن الإسلام الذي يتحدث عنه رسول الله والذي هلاكه على بني أمية هو الإسلام بالصبغة السياسية التي تمنح البركة على الأمم والشعوب، وبتغير خطها ومسارها فإن بني أمية أهلكوا الإسلام وسنوا فيه سنن بني إسرائيل  التي نهينا عن اتباعها، ولهذا وصفهم بالسفه وسخافة العقول، فهم بحق  أهلكوا الإسلام وقوضوه، فبعد عشرات السنين من التضحية التي قادها جيل الصحابة من أجل  أن تتحرر الناس من سلطان الظلم والجبر والقهر، يعود بنو أمية بكل سفاهة في عقل ويجعلون الإسلام بينهم فيقتلون كل من ناوأهم،  ويحرفون الكلام عن مواضعه حتى يتلاءم ومتطلبات حكمهم، ويظلمون الناس حقهم ويمنعونهم مما شرع الله لهم، ولضمان استمرار سلطتهم فإنهم يكونون فرعا من الخطباء والعلماء و الذين يدعمون حكمهم أو على الأقل يجدون مخارج لهم من ثورة العامة عليهم، وفي هذا الوقت يظهر خط جديد من التشريع الديني المحرف الذي يجعل الشعوب في نهاية المطاف تثور على الدين جملة وتفصيلا محدثة بذلك عصرا من المادية.
وهذا هو الهلاك الذي جلبه سفه بني أمية، وهو تغير التشريعات الإسلامية ومقاصدها المحكمة بأخرى مشتبهة وغير محكمة، والله عز و جل قال:" فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ".

وهنا مربط الفرس فالزيغ في القلوب ناتج عن التعلق بالمواد الفانية والذوات الزائلة، وهذا بالضبط ما يحدث في قلوب الملوك وأتباعهم من الخطباء وعلماء السلطان، فالزيغ ناتج عن طمع في مواد أو خوف من زوال بعض المتع وتعسر الحصول عليها.
وكما قلت سابقا فهذه السنة الانحدارية المقتبسة من بني إسرائيل لا يمكن تجاوز الحديث عنها دون التطرق إلى الخطر من ورائها والذي يداهم الأمة الإسلامية من جراء استمرار تبعاتها إلى يومنا هذا، ولعل أهم خطر لها هو أن تحدث صدعا عظيما في فهم الإسلام وتقبله لدى الناس، فيحدث للمجتمع الإسلامي ما حدث في المجتمع الرومي، ولعلنا نلاحظ حركية كبيرة في الأوساط العلمانية التي تسعى جاهدة لإسقاط الحالة الرومية على الحالة الإسلامية العربية، فحسب زعمهم لا حل للتخلف إلا بخلع لباس الدين  والإبقاء على العمامة منه فقط، وفي مقابل ذلك لا يكلفنا التطور سوى استيراد النموذج الرومي، ومع مرور الوقت فإن عوام الناس بدأت تصدق عمليا لا عقائديا ولا إراديا حقيقة تفوق النموذج الأوروبي على غيره.
ومع مرور أجيال على الاحتلال الرومي للعالم، فإن سيل الكراهية الموجه لهم يتناقص وبتدافع قوي، فالمجتمع المحمدي يتجه بسرعة كبيرة للإيمان بالنموذج الرومي، وهذا بتواز واضح لفشل النموذج الإسلامي التقليدي الذي يقوده كوكبة من علماء البلاط وجماعات جهادية مفسدة في الأرض. ولكن فساد التشريع الرومي واقتصاره على طبيعة المجتمع الرومي سيبقى حاجزا أمام تقدم الشعوب في هذا النموذج، وهذا سوف يسبب صراعا على المستوى الفكري والاجتماعي داخل المجتمع، مسببا بذلك الصراعات السياسية وبالتالي تسلط سيوف بعض الناس على بعضهم.
وقد جعلت عقوبة هذه الأمة بأيديها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ،رولهذا أصبحت الحاجة الآن ضرورية لإعادة صيغ الخطوط العريضة لنظرة الإسلام إلى الحياة بجميع جوانبها بحيث تجد فيه الناس الحل الأمثل للخروج من تخلفها الذي أصابها.
ولن يكون هذا إلا بوضع خطوط فاصلة بين الدين الحقيقي الذي يضمن للناس حريتها، وبين الدين المؤول الذي يستغفل الناس ويستعبدها من أجل مصلحة مجموعة معينة.
ولعل أهم ما يدفع بعض متطرفي العلمانية وبعض النافرين من التشريع الإسلامي هو التلاعب الذي يقوده الفقهاء وأصحاب الخطب من المقربين من السلطان، وفي الحقيقة هذا سبب وجيه للنفور منهم وليس للنفور من تشريعاتنا، بل يجب أن نقاوم هؤلاء السلاطين وعلماءهم وسلاطينهم ونحافظ على نقاء شريعتنا وصفائها من الشوائب التي تعتريها من الشبه التي يلقي بها الخراصون من علماء البلاط، ولو استسلمنا لهم وألقينا التشريع الإسلامي وراء ظهورنا وسمحنا لهم بالتلاعب بنا لصرنا عند ذلك الجبناء الذين فروا وتركوا دينهم وراءهم للذئاب لتتلاعب به وتغيره وتحمل الناس على عبادة الناس، تحت ذريعة الدين وسلطته، ولو تخاذلنا عن فضح أهدافهم ونواياهم لكنّا بذلك قد خنا الله في عباده ولم نكمل الأمانة التي وكلت لنا.
ولعل أهم ما ينطلق منه التصحيح الجديد لمفهوم الإسلام وهو أن الدين هو التشريع لا فرق بينهما فمن تنصل من شريعتنا فلا حظ له في ديننا، وأن التشريع الذي نقدمه ليس ناقصا بل كاملا، يشمل كل جوانب الحياة الأساسية والفرعية.
ومن مميزات هذا التشريع هو أنه ثابت في الأساسيات وغير مختلف فيها، ومتسع مفسح في الفرعيات قابل للاختلاف واليسر.
ولهذا فلا بد أن نقول أن أهم التشريعات هي التشريعات السياسية كونها الأساس القائم على حماية الناس من ضياع حقوقهم، فيجب أن تكون مقدسة وثابتة تضمن للناس حقوقهم، وغير قابلة للتأويل أو التحريف، فلا يتلاعب بها أبدا، وغير قابلة لأن تستغل في الظلم أو إراقة الدماء التي حرم الله، ولهذا فإنني سأفتح قضية أهداف التشريع الرباني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق