وملخص القصة أن ابن
الاشعث خطب في الناس خطبة ذكرهم فيها بالأعمال القبيحة والسيئة التي يقوم بها
الحجاج في العراق، حيث أمات السنة وأحيا البدعة، وكان لا يقاتل إلا للغنيمة
والسلطة والمال، وأنه يرمي بأهل العراق في أرض العدو، فإن أصابوا خيرا أصاب منه الأكثر،
وإن أصابوا شرا فهو عنه بعيد، فاجتمعوا على خلعه ووقعت بينهم وقائع كثيرة قبل
موقعة الجماجم، وطلب الحجاج المدد من الشام من مروان بن الحكم حتى ينتصر على أصحاب
ابن الأشعث الذين كان غالبيتهم من العلماء والقراء وحفاظ الحديث الذين كان لهم الأثر
الحسن في نقل الحديث النبوي، ففي تاريخ الإسلام للذهبي قال: عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ: كُنْتُ فِي خَيْلِ جَبَلَةَ بْنِ زَحْرٍ،
وَكَانَ عَلَى الْقُرَّاءِ، فَحَمَلَ عَلَيْنَا عَسْكَرُ الْحَجَّاجِ مَرَّةً
بَعْدَ أُخْرَى، فَنَادَانَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: يَا مَعْشَرَ
الْقُرَّاءِ، لَيْسَ الْفِرَارُ بأحدٍ مِنَ النَّاسِ بِأَقْبَحِ مِنْكُمْ،
وَبَقِيَ يُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ. وَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: أَيُّهَا
النَّاسُ، قَاتِلُوهُمْ عَلَى دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَا الشَّعْبِيُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَاتِلُوهُمْ
عَلَى جَوْرِهِمْ وَاسْتِذْلالِهِمُ الضُّعَفَاءَ، وَإِمَاتَتِهِمُ الصَّلاةَ. قَالَ:
ثُمَّ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَبَدَّعْنَا فِيهِمْ، ثُمَّ
رَجَعْنَا، فَمَرَرْنَا بجبلة بن زحر صَرِيعًا فَهَدَّنَا ذَلِكَ، فَسَلانَا أَبُو
الْبَخْتَرِيِّ، فَنَادُونَا: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ هَلَكْتُمْ، قُتِلَ
طَاغُوتُكُمْ.
وكل من ابن أبي ليلى
والبختري وسعيد بن جبير والشعبي كانوا من الأفاضل والأكابر الذين تركوا آثارا طيبة
في الإسلام، ومما يلخص أن قتالهم للحجاج لم يكن إلا بسبب الجور وإذلال المستضعفين
وإماتة شرائع الإسلام بما فيها الصلاة.
تلخيصا لما نقله الذهبي، فإن ثورة ابن الأشعث
دامت أكثر من شهور، ولم تكن في مصر واحد بل كانت في أمصار عديدة في العراق وخارجها،
وأسفرت عن معارك كثيرة منها: وقعة الزواية ووقعة مسكن والدجيل ودير الجماجم.
ومع ذلك لم ينزل أهل
العراق على طلب مروان بن الحكم، إذ عرض عليهم عزل الحجاج بن يوسف الثقفي على أن
يعودوا للطاعة، بل أصروا على خلع مروان بن الحكم نفسه، واستمر القتال حتى كانت
المعركة الأخيرة التي كاد ينتصر فيها أصحاب الأشعث إلا أن مكر بني أمية كبير وهذا أنه
كان على ميسرة ابن الأشعث الأبرد بن قرة التميمي ثم إِنَّ سُفْيَانَ بن الأبرد حمل
على ميسرة ابن الأَشْعَثِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا هَرَبَ الْأَبْرَدُ بْنُ
قُرَّةَ التَّمِيمِيُّ، وَلَمْ يُقَاتِلْ كَبِيرَ قِتَالٍ، فَأَنْكَرَهَا مِنْهُ
النَّاسُ، وَكَانَ شُجَاعًا لا يَفِرُّ، وَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ خَامَرَ،
فَلَمَّا انْهَزَمَ تَقَوَّضَتِ الصُّفُوفُ، وَرَكِبَ النَّاسُ وُجُوهَهُمْ.
وبما أن الرجل شجاع لا
يفر كما وصف فإنما هرب وترك ابن الأشعث متعمدا ذلك من أجل الدنيا والمال، وهذا حال
بني أمية فليست المرة الأولى التي اشتروا بها ذمم الناس عن طريق المال، لقد كانوا
مدركين أنه سوف يقبل بما عندهم من مال وخيرات، وكان مما قاله الحجاج اتْرُكُوهُمْ
فَلْيَتَبَدَّدُوا، وَلا تَتْبَعُوهُمْ، وَنَادَى مُنَادِيهِ: مَنْ رَجَعَ فَهُوَ
آمِنٌ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى الْكُوفَةِ فَدَخَلَهَا، وَجَعَلَ لا يُبَايِعُ أَحَدًا
مِنْهَا إِلا قَالَ لَهُ: اشْهَدْ عَلَى نَفْسِكَ أَنَّكَ كَفَرْتَ، فَإِذَا
قَالَ: نَعَمْ، بَايَعَهُ، وَإِلا قَتَلَهُ، فَقَتَلَ غَيْرَ وَاحِدٍ مِمَّنْ
تَحَرَّجَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ. وَجِيءَ بِرَجُلٍ فَقَالَ
الْحَجَّاجُ: مَا أَظُنُّ هَذَا يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ، فَقَالَ
الرَّجُلُ: أَخَادِعِي عَنْ نَفْسِي، أَنَا أَكْفَرُ أَهْلِ الأَرْضِ، وَأَكْفَرُ
مِنْ فِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ، فَضَحِكَ وَخَلاهُ.
والمتدبر في حال كفر
الحجاج بن يوسف الثقفي يوقن يقينا كاملا أن الحجاج أراد أن يكفر كل من خرج على
سيده وقتل الناس على ذلك، وهذه آفة السفهاء فالناس الذين قتل أهلهم لم يكونوا
ليتركوا ذلك الأمر يمر مرور الكرام، فهم بدورهم سوف يكفرون الحجاج وبني أمية ومن
جاء معهم، وهكذا نشأ الفكر الضال ليكون ردة فعل على فكر الحجاج الضال، وتجرع أهل
العراق المرارة من أعمال بني أمية، وأبسط مثال عن ذلك من مات منهم من العلماء في
هذه الثورة كثير جدا، منهم ابن أبي ليلى وكان من أصحاب الإمام علي رضي الله عنه، وكان
يمسكه الحجاج فيحاول إجباره على سب علي رضي الله عنه، ومنهم الإمام سعيد بن جبير
قتله الحجاج صبرا رضي الله عنه وكان أيضا من شيعة الإمام علي، ومنهم مؤذن الإمام
علي، ومنهم أيضا أَبُو صَالِحٍ الْحَنَفِيُّ مَاهَانُ، وقد ذكره ابن نعيم في كتاب
الحلية وقال: " أَمَرَ الْحَجَّاجُ بِمَاهَانَ أَنْ يُصْلَبَ عَلَى بَابِهِ.
قَالَ: وَرَأَيْتُهُ حِينَ رُفِعَ عَلَى خَشَبَةٍ يُسَبِّحُ وَيُهَلِّلُ
وَيُكَبِّرُ يَعْقِدُ بِيَدِهِ حَتَّى بَلَغَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ. قَالَ:
وَطَعَنَهُ الرَّجُلُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَ
شَهْرٍ مَعْقُودًا بِيَدِهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، قَالَ: وَكُنَّا نَرَى عِنْدَهُ
الضَّوْءَ بِاللَّيْلِ شِبْهَ السِّرَاجِ ".
فقد ترك رضي الله عنه
مصلوبا شهرا كاملا، وكان من أصحاب الإمام علي، روى عنه وعن عائشة وابن مسعود رضي
الله عنهم جميعا، وروى أحاديث في فضل علي وأبي بكر رضي الله عنهما، وكان رجلا
صالحا صبورا، قطع وصلب على الخشب كما فعل بأصحاب عيسى بن مريم. وقتل أيضا أبو البختري،
و عن حبيب بن أبى ثابت : اجتمعت أنا وسعيد بن جبير ، وأبو البخترى الطائي، و كان
الطائي أعلمنا وأفقهنا،
وقتل صبرا أي إعدام
ميداني بعد الاعتقال كل من: عمران بن عصام الضبعي، وأبو عمارة البصري وكان أيضا من
أصحاب الإمام علي رضي الله عنه.
وأيضا عبد الله بن شداد
بن هاد، وكان من أصحاب الإمام علي وروى عنه وعن ابن مسعود وابن عباس، وكان فقيها
عالما، وقيل أنه فقد في الدجيل ولم ير بعدها
ونقلا عن الذهبي قال:"
قَالَ خَلِيفَةُ: تَسْمِيَةُ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ ابْنِ
الأَشْعَثِ: مُسْلِمُ بن يسار المزني، وأبو مراية العجلي، وقد قتل، وعقبة بن عبد
الغافر العوذي فقتل، وعقبة بن وساج البرساني، فقتل، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ غَالِبٍ
الْجَهْضَمِيُّ، فَقُتِلَ، وَأَبُو الجوزاء الربعي، فقتل، وَالنَّضْرُ بْنُ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ، وَعِمْرَانُ وَالِدُ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ، وَأَبُو
الْمِنْهَالِ سَيَّارُ بْنُ سلامة الرِّيَاحِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ،
وَمُرَّةُ بْنُ دَبَّابٍ الهدادي، وَأَبُو نُجَيْدٍ الْجَهْضَمِيُّ، وَأَبُو
شَيْخٍ الْهَنَائِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ، وَأَخُوهُ الْحَسَنُ،
وَقَالَ: أُكْرِهْتُ عَلَى الْخُرُوجِ" انتهى.
والقائمة ما زالت طويلة،
فقيل أنه قتل من العلماء وقراء القرآن خلق كثير تجاوز عددهم خمسمائة عالم وقارئ
لكتاب الله، وهذه المصيبة التي جاء بها الحجاج بن يوسف الثقفي للناس، فقد أخذ
غالبية العلماء الذي تعلموا على يد عبد الله بن مسعود أيام كان بالكوفة ثم على يد
الإمام علي رضي الله عنهم.
ولقد صدق مجاهد فيهم
الوصف ففي حلية الأولياء عنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ:" شِيعَةُ عَلِيٍّ
الْحُلَمَاءُ، الْعُلَمَاءُ، الذُّبْلُ الشِّفَاهِ، الْأَخْيَارُ الَّذِينَ
يُعْرَفُونَ بِالرَّهْبَانِيَّةِ مِنْ أَثَرِ الْعِبَادَةِ"
و قد هلك من أصحاب الإمام
علي الكثير في معاركهم مع الحجاج بن يوسف، وهذا شكل مصيبة كبيرة على الأمة، فقد
انتشر الجهل بعدها في العراق انتشار واسعا أنتج ظهور فرق كثيرة تفتي الناس بغير
علم، فأضلوا الناس بغير علم بعد أن قتل غالبية العلماء في الفتن والهرج الذي سببه
ظلم وفساد الطواغيت الذين لم يتركوا شيئا من عرى الإسلام إلا ونقضوه طمعا في
الدنيا وطلبا لها.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَظْهَرُ
الْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ» قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «الْقَتْلُ، وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ».
فَسَمِعَهُ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ يَأْثُرُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ: «أَمَا إِنَّ قَبْضَ الْعِلْمِ لَيْسَ بِشَيْءٍ يُنْتَزَعُ مِنْ صُدُورِ
الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُ فَنَاءُ الْعُلَمَاءِ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ
انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ، فَإِذَا
لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ - وَفِي رِوَايَةِ الصَّفَّارِ: حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ
عَالِمًا - اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتُوا بِغَيْرِ
عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا
ولو قارنا قليلا بين قصة
الحواريين الذين قاتلوا ملوك اليهود بعد موت عيسى لوجدنا أن أصحاب الإمام علي رضي
الله عنهم أيضا قاتلوا ملوكا لا يختلفون عن ملوك بني إسرائيل الفاسدة، وكما صلب أصحاب
عيسى وقتلوا، صلب كذلك أصحاب الإمام علي وصلبوا وحملوا على الخشب، بل وضع الحجاج
في أفواه بعضهم الرماد والجمر، ثم بعد موت أغلب أصحاب عيسى انتشر القول الفاسد في
عيسى عليه السلام حتى صار إلها، وحمل النصارى دعوة ألوهية عيسى ونزلوا على اليهود
فكان ذلك آخر عهد لليهود وضربت عليهم الذلة إلى يوم القيامة.
كذلك فأمة محمد لم تسلم من
هذه السنة، فقد دخل الضلال إلى شيعة الإمام علي وصاروا روافض، وهذا بسبب ما سببه
بنو أمية من مظالم وقتل وفقر، فدفعوا الجهلة من الناس إلى الكفر وهم لا يشعرون.
إن قلوب الناس ليست كلها
تصبر على الأذى الشديد، وليست كل عقول الناس تفهم أن ما دفعهم لكره أبي بكر وعمر
هو أفعالهما بل استدلال بني أمية بهم وهم على الشر قائمون.
لقد أسفرت حملة الحجاج
على ظهور الجهل الذي أسس لنواة الرفض الأولى التي صارت بعد ذلك مذهبا أهم شروطه
رفض رموز السلطة القريشية رفضا تاما بما فيها أبو بكر وعمر، لكن لو بقي علماء
العراق من أصحاب الإمام علي لما تركوا الناس تجهل هكذا وتتطرف تطرفا فظيعا مثل هذا،
ولكنها مشيئة الله أن يلبس أمة محمد شيعا ويضيق بعضهم بأس بعض.
عقيدة
الروافض ظهرت بشكل كبير بعد أفعال الحجاج وأول نتائجها فشل ثورة الإمام زيد بن علي
بن الحسين رضي الله عنه. فلم قامت ثورته وعن ماذا أسفرت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق