الحرية من مقاصد الشريعة

 1 - الحرية
 الحرية 

رية لقد جاءت الشرائع الرباني  لحفظ الحق وإبطال الظلم وتحرير الناس من عبادة الناس وتسلطهم على بعضهم البعض في علاقاتهم، وتحويلهم إلى التعامل والتدافع الذي يدفع نحو مصالح تضمن لهم حياة طيبة ليس فيها ظلم ولا ألم ولا انحرافات عن الحق، وبالتالي فإن الغالبية من الناس سوف تجد فسحة في الرزق والوقت لتتفرغ لعبادة الله، وكان من تمام عدل الله أنه لم يكلف الناس بعبادته إلا ما يطيقون، ولم يجبر أحدا من العالمين أن يعبده بالسيف في الدنيا، فجعلت الشرائع التعبدية على طاقة الناس وقدرتهم، وضبطت موازين التعامل في الشرائع  لكل ما في الدنيا من تعاملات تجارية واجتماعية وسياسية، فجعل لكل إنسان حقه ومستحقه وما يقع عليه من واجبات مخزنة في فطرته مسبقا، وجاءت الشرائع لتأكيد هذه الفطرة، ولكن مع تقدم الزمن وكثرة الناس فإن التعاملات تكبر كثيرا وكلما كبرت تعاملات الناس فإنها قد تنحرف عن جادة الصواب، فهي كالوادي قد لا ينحرف إذا لم يمتلئ، لكنه إذا امتلئ فإنه ينحرف، وهكذا هي الناس تنحرف والشرائع جاءت لتصحيح الانحراف وممارسة الرقابة عليه والمعاقبة على وقوعه.

والشرائع الربانية منزهة عن الخطأ أو السهو  أو الظلم، لكن التفسيرات البشرية لها هي من تنقلها من حقيقتها إلى غير ما أنزلت عليه، فتكرس بالتحريف استعباد الناس، وتشرع بالتحريف ظلم الناس، وهذا كان في الأمتين السابقين اليهودية والنصرانية، ووصل الانحراف إلى حد لا يمكن أن يدرك، فقد حولوا جميع معالم الخطاب الرباني المتعالي وحولوه إلى خطاب بشري سفلي يحمل الكثير من السفالة البشرية والتدنس العجيب لمعالم الإنسانية، وإحلال الاستعباد واللعن و ظهور فوارق مقدسة بين البشر، فمثلا القساوسة قادرون على الاستغفار للبشر من بشري جعلوه إلها.
إلى غير ذلك من الأفكار التي تحمل في حقيقتها توجها ماديا يهدف إلى تجميد عقول الناس وتحطيم هممهم وتسليمها كأظرفة مغلفة للحكام ليفعلوا بها ما يشاءون.
لكن في كل جوهر إنسان فطرة سليمة جعلها الله مخزونا له ليعود إليها، ويدرك الإنسان كله أنها مسلمة لا شية فيها، فلا تقبل التعارض ولا تقبل الانحراف ولا تقبل الاعوجاج الذي يصنعه الفكر البشري المتعلق بالشهوات السفلية، ولا شك أن الشرائع السماوية لا تختلف عن الفطرة السليمة ولا تعارضها بل تأتي مثبتتا لها وداعمة لها، ولعل أهم ما يعلمه الإنسان فطرة هو أنه ولد ليكون حرا، وسيبقى حرا مخيرا في أمره مهديا للنجدين، عارفا بكمائن الشر و مراعي الخير.
ولعل أهم ما ترتضيه الفطرة هو أنه ما من قوم إلا ولا بد لهم من قانون وشريعة هي دينهم الذي يرتضونه ليحكم بينهم، فيحق الحق بينهم ويبطل الباطل.
ولعل أهم ما تقتضيه الفطرة هو أن يكون للناس قائد وإمام يخدم مصالحهم، فيكون عليهم وكيلا في ما أوكلوه فقط، وتقتضي الفطرة أنه بهم إمام مطاع وليسوا هم به عبيدا، فيكون الناس على القائد كما يكون المستأجر على الأجير حتى إذا استوفى منه العمل أعطاه الأجر.
ولعل أهم ما أمرت به الفطرة الإنسانية من انحراف هو تحول هذا الأجير إلى إله يعبد، فلم يرضه أن الناس تطيعه على الحق، بل أراد أن يطاع في الباطل ،فيغنم من الشهوات ما كان يمنع منه الأمس، وليس هنالك من سبيل لأخذ الحقوق وسلبها وإفساد الفطرة و قتل الحرية إلا بتحريف المقدسات التي هي شرائع الناس وقوانينها، وجعلها كلها تصب في إخضاع الناس لسلطة شخص واحد يزعم أن الله منحه حق سلب الحريات وكتم الأرواح وشنقها، تحت حجة إنها متمردة خارجة عن سلطة الله.
فجعل البشري الحقير الذي حكمه الناس على أمرهم له سلطة من الله على الناس، وهذا عين الانحراف الذي يؤدي في النهاية إلى انهيار الدين والشريعة بسبب ما مارست السلطة الظلم تحت ذريعتها.
ولعل أهم ما يجب معرفته عن الله وعن شرائعه هو أنه خيّر البشر ولم يجبرهم فقال:" وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ "، فكان من سبيل العدل والحق أن يكون الجزاء من جنس العمل، وكان من تمام العدل أن يكون الإنسان محاسبا على عمله وفق يقين بمقدرته العقلية عليه، وأنه مخير على القيام بالصحيح أو الخاطئ منه وفق ظروف زمنية ومكانية تسمح له بذلك، ولهذا فلن يكون الحساب كاملا وشاملا ودقيقا لو أن الإنسان مجبر من الله على الخضوع لسلط بشرية قد تكون مصيبة أو قد تكون مخطئة، فتعالى الله عما يصفون، فهو العزيز الذي خلق فحرر، وحكم فعدل، وأوحى فهدى وأضل على ما في قلوبهم، فقال:" كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ "، وكذلك الحكم فالناس غير مجبرين أن يكونوا تحت سلطة أحد ما، فالله جعلهم أحرارا يختارون من أصلح لهم، فإن هم اختاروا صلاح الدنيا دون الآخرة خابوا في دنياهم وأخراهم، وإن هم اختاروا صلاح الدنيا وصبروا حق الصبر أصابوا عز الدنيا والآخرة.
وهذه هي المسؤولية التي تتوجب على الحرية، فكلما كنت حرا، كنت مجبرا على الاختيار الصحيح، وإلا سوف تلقى نتائج مخزية يوم الحساب، وهذا هو العدل الكامل فعندما تكون حرا مخيرا يكون اختيارك تبعا لك، فتحاسب عليه وفق ما قدمت من أعمال.
أما نتائج الاتباع فعادة ما ذمها الله في القرآن، فذم اتباع الآباء والأجداد وكبار القوم وقد قال الله في مجمل الاتباع قوله سبحانه وتعالى: " إِذّ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الِأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ".

فكانت أسمى أهداف التشريع السماوي أن تحفظ للإنسان حريته التي يكون عليها عمله، وعلى حسب عمله يكون الجزاء.
وباختصار كل ما قلناه وقدم، فإن الحرية غاية الشريعة ومطلب أساسي للحياة و لا تكليف للأمم إن لم تكن حرة، والحرية هي أساس قيام الأمم والحضارات الكبرى، فإن غابت الحرية عن الشرائع السماوية واستبدلت بخطاب يحث على تسليط شخص على الناس، فذلك يكون بيد سلطان فاسد يسعى لتخريب الشرائع السماوية وتحريف أصول خطابها الأساسي القائم على حرية البشر في اختياراتهم وسلوكياتهم.
ولهذا فالتحريف للشرائع السماوية التي تحفظ للناس حريتهم يقوم على ركيزتين من الباطل، وهم سلاطين السوء و علماء السلاطين أو ما يسمى عن اليهود والنصارى بالأحبار والقساوسة أو الفقهاء عند المسلمين.
وتقوم فكرة تحريف الخطاب الديني على تعطيل استعمال العقول في المرحلة الأولى، والثانية بالتخويف من مخالفة السلاطين تحت ذريعة اختلاط المصالح والمفاسد ولا يدركها إلا السلطان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق